مختارات من القصص الإنجليزي
مختارات من القصص الإنجليزي
ژانرها
ولما بلغت نزل البيكوك - حيث ألفيت كل امرئ يحتسي شرابه حارا التماسا للمحافظة على الذات - سألت هل في المركبة مقعد داخلي؟ على أني تبينت أني - في الداخل والخارج - الراكب الوحيد. وكان هذا مما زاد شعوري بشدة الشتاء وسوء الجو، فقد كان الإقبال على هذه المركبة خاصة عظيما. واحتسيت شيئا من الشراب ألفيته سائغا جدا، وركبت فغطوني بالقش إلى وسطي، وبدأت رحلتي وأنا شاعر بما في منظري من بواعث الإضحاك والسخرية.
وغادرنا «البيكوك» والدنيا ما زالت ملفوفة في مثل الشملة من الظلام، وكانت أشباح البيوت والأشجار تبدو غائمة باهتة كأنها منظورة من خلال الضباب ثم طلع النهار جامدا أسود مصرورا. وكان الناس يضرمون النار في مواقدهم والدخان يرتفع مستقيما ذاهبا في طبقات الهواء الرقيق، ونحن نقرقر بمركبتنا إلى «هايجيت ارشوي» على أوعر أرض رن عليها حافر. ودخلنا في الريف فخيل إلي أن كل شيء قد شاخ وعلته شيبة - الطرق والأشجار والسقوف والبيادر - وقد ترك الناس العمل خارج البيوت، وتجمد الماء المعد لشرب الجياد، وخلت الطرق من العابرين، وأحكم إيصاد الأبواب، وعلت ألسنة النار في بيوت الحراس الصغيرة، وجعل الأطفال (حتى الحراس لهم أطفال ويبدو عليهم أنهم يحبونهم) يمسحون الغيم عن الزجاج بسواعدهم البضة لتأخذ عيونهم اللامعة منظر المركبة الفريدة المارة بهم. ولا أدري متى بدأ البرد يتكاثف، ولكني أدري أننا كنا نغير الخيل في مكان ما فسمعت الحارس يقول إن السماء جادة في إلقاء الثلج علينا، فنظرت فألفيته يسقط علينا بسرعة وكثرة.
وانقضى النهار الموحش وقد نمته كما يفعل المسافر المستفرد، وأحسست بالدفء والقوة والشجاعة بعد الطعام والشراب - ولا سيما بعد العشاء - أما ما خلا أوقات الطعام فإني لا أحس فيه إلا بالانقباض. وكنت ذاهلا عن الزمان والمكان، وأكاد أكون في غير وعيي. وكانت المركبة والجياد كأنما تشدو بلحن لا ينقطع ولا يختلف حتى لأزعجتني الدقة في ذلك، وبينما كانت الخيل تغير كان الحراس يدبدبون وهم يتمشون رائحين غادين، ويتركون آثار أحذيتهم على الثلج ويفرغون في بطونهم من الشراب مقادير عظيمة لم تؤثر فيهم، فلما دخل الظلام مرة أخرى اختلط علي أمرهم ببرميلين كبيرين هناك. وتعثرت الخيل في مواضع فأنهضناها، وكان هذا خير ما حدث لي وأمتع ما وقع لأنه أشعرني الدفء. وكان الثلج لا يزال يسقط، ويسقط ولا يكف عن السقوط. وظل الحال على هذا المنوال طول الليل. وهكذا دارت الساعة دورتها وعدنا إلى الطريق على أصوات الحوافر والعجلات، بينما كانت السماء ماضية في إلقاء الثلج علينا لا تكف عن ذلك ولا تني أو تفتر.
وقد نسيت أين كنا ظهر اليوم الثاني، وأين كان ينبغي أن نكون، ولكني أعلم أنا كنا متأخرين عشرات من الأميال، وأن الحال كان يزداد سوءا ساعة بعد ساعة، فقد أخذ الثلج المتساقط يعلو جدا والمعالم تختفي فيه، وصارت الطرق والحقول شيئا واحدا، وبدلا من أن تكون هناك حواجز وأسوار تهدينا في سيرنا كنا نخبط فوق سطح أبيض متصل غير منقطع قد يخوننا في أية لحظة فنرتمي على سفح تل. ولكن الحوذي والحارس - وكانا معا لا ينفكان يتشاوران ويديران عيونهما فيما حولهما - استطاعا أن يسددا خطوات الجياد بدقة مدهشة.
وكنا إذا صارت بلدة على مرأى منا يخيل إلي أنها تشبه رسما كبيرا على أردواز
1
وأن الكنائس والبيوت - حيث الثلج أكثف - كانت أوفر حظا من التخطيط. وكنا ندنو من البلدة فنلقى ساعات الكنائس كلها قد تعطلت ووجوهها قد غطاها الثلج وأسماء الفنادق قد محيت فيبدو لنا المنظر كأنما هو مكسو بالنبات الأبيض. أما المركبة فقد صارت كرة من الثلج. كذلك الرجال والأطفال الذين كانوا يعدون إلى جانبنا إلى آخر البلدة ويساعدون على إدارة العجلات المرتطمة ويستحثون الجياد اللاهثة - هؤلاء أيضا كانوا في رأي العين رجالا وأطفالا من الثلج. أما البيداء الموحشة التي تخلفوا عنا على تخومها فقد كانت صحراء ثلجية. وكان المرء معذورا إذا توهم أن الطبيعة بلغت غاية مجهودها، وأنه ليس فوق ما صنعت زيادة لمستزيد، ولكني أقسم أن السماء ظلت تثلجنا وتثلجنا ولا تزال تثلجنا ولا تكف أو تني عن ذلك أو تفتر.
ولبثنا على هذا الحال النهار كله لا نرى شيئا خارج البلدان والقرى غير الآثار التي يتركها القاقم والأرنب والثعلب والطير أحيانا. وفي الساعة التاسعة ليلا نبهتني نفخة مرحة في بوق المركبة وأصوات أناس تستبشر بها النفس وحركات مصابيح وإذا نحن قد وقفنا في ساحة من أرض يوركشير لتغيير الخيل.
وساعدوني على النزول فقلت لخادم صار رأسه العاري أبيض كرأس الملك لير في دقيقة واحدة: «أي فندق هذا؟»
قال: «فندق شجرة الميلاد.»
صفحه نامشخص