مختارات من القصص الإنجليزي
مختارات من القصص الإنجليزي
ژانرها
وأحسبكم لم تفكروا قط في ندرة النار في مكان معتدل الجو وليس فيه إنسان، فإن حرارة الشمس يندر أن تكون من القوة بحيث تحرق، حتى ولو جمعتها قطرات الندى كما يحدث أحيانا في الأقاليم الاستوائية. وقد يصعق البرق ويسود ولكنه قلما يحدث حريقا، وقد يدخن النبات الفاسد من حرارة ما به من التخمر ، ولكن هذا قلما يحدث لهبا، وقد أدى الانحطاط إلى نسيان فن إيقاد النار على الأرض، فلما أضرمتها كانت الألسنة الحمراء التي ارتفعت إلى كوم الحطب شيئا جديدا غريبا في نظر وينا.
وقد أرادت أن تذهب إليها وتلعب بها، وأعتقد أنها كانت خليقة أن ترمي نفسها عليها وتلقي بها فيها لولا أن رددتها وكبحتها. وقد تناولتها فحملتها، ومضيت على سنني إلى الغابة، على الرغم من مقاومتها، وكان وهج النار يضيء لي الطريق مسافة، ورجعت البصر فرأيت من خلال الشجر أن اللهيب امتد من كوم الحطب إلى بعض الشجيرات القريبة، وأن خطا متقوسا من النار يزحف إلى الحشيش على التل، فضحكت ورددت لحظي إلى الأشجار السوداء أمامي، وكان السواد حالكا فلصقت وينا بي، ولكنني بعد أن ألفت الظلام استطعت أن أرى طريقي بين الشجر، وكانت الظلمة طاغية فوق رأسي إلا في حيث كانت تبدو رقع من السماء الزرقاء هنا وهنا، ولم أشعل كبريتا لأن يدي كانتا مشغولتين، فقد كنت أحمل وينا على ساعدي الأيسر، وكان في يمناي قضيب الحديد.
وظللت شيئا لا أسمع إلا صوت تقصف الأعواد تحت قدمي، وخشخشة الشجر إذ يصافحه النسيم، وإلا أنفاسي ونبض عروقي في أذني، ثم خيل إلي أني أسمع وقع أقدام حولي، فواصلت السير غير عابئ، وزاد الصوت وضوحا وسمعت نفس الأصوات الغريبة التي كنت سمعتها في السراديب، فلم يبق شك في أن حولي كثيرين من السفليين وأنهم يطبقون علي، وشعرت بعد دقيقة بشيء يجذب سترتي، ثم ذراعي، فسرت الرعدة في بدن وينا، ثم قرت وسكنت.
وكان هذا هو وقت الكبريت، ولكن إشعاله يضطرني أن أضع وينا ففعلت، ودفعت يدي في جيبي، فشعرت بعراك عند ركبتي، وكانت وينا صامتة، لا تنبس، وكان السفليون يلغطون، وذهبت أيديهم الصغيرة الطرية تتحسس ظهري وتلمس عنقي، ثم اشتعل العود، فمددت به يدي، ورأيت ظهورهم البيضاء وهم يعدون بين الشجر، وأسرعت فأخرجت شيئا من الكافور وتهيأت لإضرام النار فيه حين يشفي العود على الخمود. ثم صوبت عيني إلى وينا وكانت ممسكة بساقي، لا تتحرك، ووجهها إلى الأرض، ففزعت، وانحنيت عليها، وكانت لا تكاد تتنفس، فأشعلت النار في الكافور ورميت به على الأرض، فما تناثر وارتفع لهبه، ورد السفليين، ونسخ الظلال، ركعت ورفعت وينا، وكانت الغابة حولي كأن فيها همسا وحركة من جمهور كبير.
وكانت وينا كالمغمى عليها، فحملتها على كتفي برفق ونهضت لأمضي، وإذا بي أفطن إلى حقيقة مزعجة. ذلك أني وأنا أعالج الكبريت ووينا، درت عدة مرات فلم أعد أدري في أي اتجاه أنا ماض، وعسى أن أكون منكفئا إلى القصر، فتصببت عرقا، وكان يجب أن أفكر بسرعة وأن أستقر على رأي فيما ينبغي أن أصنع، فعزمت أن أوقد نارا وأن أبقى حيث أنا، فوضعت وينا - وكانت لا تزال مغشيا عليها - وشرعت أجمع العيدان وأوراق الشجر قبل أن يخمد الكافور، وكانت عيون السفليين تومض، من هنا وهنا، في الظلام المحيط بي، كالعقيق أو الجمر.
وهب لسان النار من الكافور ثم همدت، فأشعلت عودا وبينما كنت أفعل ذلك فر اثنان كانا يدنوان من وينا، وأعمى أحدهما النور حتى لقد ارتمى علي، فأحسست بعظامه تطحن من قوة اللكمة التي سددتها إليه، فشهق شهقة جزع، وتطرح قليلا ثم خر على الأرض. فأشعلت بعض الكافور وذهبت أجمع الحطب. ولاحظت أن الشجر جاف، فما نزل شيء من المطر مذ قدمت على آلة الزمان، فعدلت عن البحث عن الأعواد ورحت أثب وأنط وأشد الأغصان وأكسرها، فما لبثت أن أوقدت نارا ذات يحموم خانق، وصار في وسعي أن أدخر ما بقي معي من الكافور، ثم التفت إلى وينا وكانت راقدة إلى جانب حديدتي وحاولت أن أرد إليها نفسها ولكنها ظلت كالميتة، حتى لقد أعياني أن أتبين أنفاسها ألا تزال تتردد أم انقطعت.
وكان الدخان يميل علي، فثقل رأسي فجأة، وكانت رائحة الكافور في الجو أيضا، ولم تكن بالنار حاجة إلى تذكية أو تقوية قبل ساعة أو نحوها، وشعرت بالتعب، بعد الجهد الذي تجشمته، فقعدت على الأرض. وكان في الغابة همس منوم لم أفهمه. وخيل إلي أن رأسي خفق، ففتحت عيني، وكان الظلام شاملا، وأيدي السفليين علي، فدفعت أيديهم عني، ودسست كفي في جيبي طلبا لعلبة الكبريت، وإذا بها قد ذهبت! وارتد إلي السفليون وتناولوني وأطبقوا علي، فأدركت ما حدث. فقد نمت، وهمدت النار، فغمرت نفسي مرارة الموت. وكانت الغابة تسطع فيها رائحة الحطب المحروق، وأخذ السفليون بعنقي وشعري وذراعي، وجذبوني إلى الأرض، وكان من أبشع البشاعة في هذا الظلام أن أشعر بهؤلاء في بدني، وأحسست كأني في نسيج عنكبوت جبار، وغلبوني، فهويت إلى الأرض، وشعرت بأسنان دقيقة على عنقي فتمرغت، فلمست يدي قضيب الحديد، فقواني هذا، وجاهدت أن أنهض، وطرحت عني هذه الجرذان البشرية، وضربت بالقضيب في حيث قدرت أن تكون وجوههم. وكنت أشعر بانعصار اللحم وانطحان العظم تحت ضرباتي، فنجوت إلى حين.
وغمرتني النشوة التي يحدثها الكفاح الشديد. وكنت أعلم أني أنا ووينا مقضي علينا، ولكني آليت ليؤدين السفليون ثمن هذا اللحم، فأسندت ظهري إلى شجرة وذهبت ألوح بالقضيب أمامي، وكانت صيحاتهم وحركاتهم تملأ الغابة. ومضت دقيقة، ولكن أحدا منهم لم يقترب. فوقفت أحدق في الظلام، ثم تجدد الأمل فجأة. فلعل السفليين خائفون، وحدث شيء غريب في عقب هذا، فقد خيل إلي أن الظلام يشف وينجلي، وبدأت أرى، في غير وضوح، السفليين حولي - وكان ثلاثة منهم يدقون قدمي - ورأيت، وأنا في دهشة أن الباقين يجرون - في خط متصل غير منقطع - خارجين من ورائي وذاهبين في جوف الغابة أمامي، وصارت ظهورهم حمراء لا بيضاء. وبينما كنت واقفا وفمي فاغر رأيت شعلة صغيرة تخترق بين الأغصان وتختفي، فعرفت من أين جاءت رائحة الحطب المحترق، والصوت المنوم الذي صار الآن زئيرا ورعدا، والوهج الأحمر، وفرار السفليين.
وخرجت من تحت الشجرة ورددت البصر فرأيت من بين الأشجار القريبة لهيب الغابة المحترقة. هي ناري التي أوقدتها تتبعني إذن! وتلفت باحثا عن وينا، فلم أجدها. وكان زفير النار وكصيص العيدان ورائي، وفرقعة الشجر كلما اندلعت فيه النار، لا يدع لي وقتا للتفكير، فتبعت السفليين وفي يدي قضيب الحديد، وكان سباقا شديدا، وقد اندلعت النار مرة في الحشيش بسرعة على يميني وأنا أجري حتى لأخذت علي طريقي، فملت يسرة، ولكني خرجت أخيرا إلى فضاء، فرأيت واحدا من السفليين يتطرح ويمضي عني إلى النار!
وكتب علي أن أرى أفظع ما شهدت في ذلك العصر المستقبل. وكانت هذه البقعة كلها مضيئة كأننا في النهار بما ينعكس عليها من وقدة النار. وكان في الوسط كثيب تحيط به عضاة أذواها حر اللهب، ووراء ذلك جانب آخر من الغابة المحترقة يتصاعد منها أوار يحيط المكان بسور من الضرم. وكان على جانب التل ثلاثون أو أربعون من السفليين وقد أعماهم النور والحر، وهم يتخبطون من حيرتهم، ولم أفطن أول الأمر إلى عماهم فأهويت عليهم بالقضيب أضرب فيهم بلا رحمة، وبي فزع من اقترابهم مني، فقتلت واحدا وأقعدت كثيرين، ولكني لما لاحظت حركات واحد منهم وهو يتحسس تحت النبات، والسماء من فوقه متلظية، وسمعت أنينهم، أيقنت أنهم لا حول لهم ولا طول، فكففت عن ضربهم.
صفحه نامشخص