مختارات من القصص الإنجليزي
مختارات من القصص الإنجليزي
ژانرها
وفي ذلك اليوم صار لي صديق. وشرح ذلك أني كنت أرقب بعضهم وهم يسبحون في الماء، فرأيت أحدهم قد تصلبت عضلاته وشرع يغطس، وكان التيار قويا، ولكنه ليس أقوى من سابح متوسط القوة، وهذا يريكم مبلغ النقص والضعف اللذين لحقا بهؤلاء الناس، ويزيد الأمر بيانا أن أحدا منهم لم يحاول أن ينقذ الصائح المستنجد الذي يغرق، فلما رأيت ذلك خلعت ثيابي وخضت الماء إلى حيث كانت الفتاة، وجررتها سالمة إلى الشاطئ، ودلكت لها أعضاءها قليلا فأفاقت وسرني أنها كانت بخير حين تركتها، وقد بلغ من سوء رأيي في قومها، أني لم أتوقع منها شكرا، ولكني كنت مخطئا.
حدث هذا في الصباح. وبعد الظهر التقيت بهذه المرأة الصغيرة، بينما كنت عائدا من ارتيادي، إلى مركزي، فاستقبلتني بصيحات الفرح وقدمت لي باقة كبيرة من الزهر - كان من الواضح أنها جمعتها لي - لي وحدي - فوقع ذلك من نفسي، وحرك خيالي، وأحسبني كنت أشعر بوحشة. ومهما يكن من ذاك فقد حاولت جهدي أن أظهر لها اغتباطي بهديتها، وجلسنا معا ورحنا نتحدث، بالابتسام على الأكثر. وكان تأثير مودتها في نفسي هو التأثير الذي يحدثه الطفل. وتبادلنا الأزهار، ولثمت يدي، فلثمت يديها، ثم عالجت الكلام فعرفت أن اسمها «وينا» وبدا لي أنه اسم موافق وإن كنت لا أدري ما معناه، وكانت هذه فاتحة صداقة عجيبة ظلت أسبوعا، ثم انتهت على ما سأحدثكم به.
وكانت كالطفل في كل شيء، وكانت تحب أن تكون معي أبدا ولا تفارقني، فهي تتبعني إلى حيث أذهب، فلما رحت أرتاد الأرض بعد ذلك آلمني أن أرهقها وأتركها أخيرا منهوكة القوى تناديني وفي صوتها نبرات الأسف والتوجع، ولكنه كان لا بد لي من الوقوف على ما أنشد الوقوف عليه من أمور الدنيا، وحدثت نفسي أني لم أجئ إلى هذا المستقبل لأغازل فتاة مثلها، على أن حزنها لما خلفتها كان شديدا، وكان بثها عند الفراق شديدا، وأحسب أن تعلقها بي أتعبني بقدر ما سرني. غير أنها كانت لي روحا وريحانا، وقد حسبت أن الحب الصبياني هو الذي أغراها بي، ولم أفطن إلا بعد الأوان إلى ما كلفتها لما تركتها، بل لم أدرك - إلا بعد الأوان - منزلتها عندي، فقد كانت تبدو محبة وامقة لي، وكانت تظهر لي بطريقتها العقيمة أنها معنية بي، فلم تلبث هذه اللعبة الصغيرة أن أكسبت عودتي إلى التمثال وما حوله، ما يشعر به المرء حين يرجع إلى بيته، فصرت أتطلع وأتشوف باحثا عن جسمها الدقيق كلما رجعت من الجبل.
ومنها أيضا عرفت أن الخوف لم يزايل العالم، وكانت لا تهاب شيئا في النهار، وكانت ثقتها بي أتم ما يكون، وقد غضبت مرة فتوعدتها بإشارة، فضحكت، ولكنها كانت تخاف الظلمة، وتخشى الظلال، وتفزعها الأشياء السوداء، وكان الظلام أشد ما يرعبها، وكان خوفها هذا من القوة بحيث أغراني بالتفكير والملاحظة، فوجدت أن هؤلاء القوم يتجمعون في البيوت الكبيرة بعد دخول الليل وينامون زرافات وأسرابا. وكان مجرد الدخول عليهم بغير ضوء يزعجهم ويخيفهم، وما رأيت قط أحدا منهم خارج الأبواب في الليل، أو نائما وحده في البيت، ولكني كنت أغبى من أن أفقه درس هذا الخوف، وأصررت على الرغم من حزن وينا على النوم وحدي بمعزل عن هذه الجماعات الراقدة.
وكان هذا مني يزعجها ويقلقها، ولكن حبها لي تغلب آخر الأمر على خوفها، فكانت في الليالي الخمس التي ترافقنا فيها - وفي جملتها الليلة الأخيرة - تنام إلى جانبي متخذة من ذراعي وسادة. ولكني أراني أستطرد عن الموضوع في الليلة التي سبقت إنقاذها، استيقظت في الفجر وكنت مضطربا، أحلم بأني غرقت وأن شقائق الماء تمسح وجهي بغلائلها ونواراتها الرقيقة، فقمت من النوم فزعا وقد خيل إلي أن حيوانا انطلق خارجا من الغرفة، وعالجت النوم مرة أخرى، ولكني كنت قلقا لا استقرار لي ولا راحة، وكانت تلك هي الساعة التي تزحف فيها الأشياء خارجة من الظلام، ولا لون لها ولا حقيقة وإن كانت واضحة المعالم، فنهضت ومضيت إلى القاعة الكبيرة ومنها إلى المقاعد الحجرية أمام البيت، وخطر لي أن أتخذ من الضرورة مزية فأشهد طلوع الشمس.
وكان القمر يغيب، وسواد الليل يختلط ببياض النهار، وكانت الأشجار سوداء كالحبر، والأرض عليها الظلال، والسماء لا لون لها ولا بهجة، وخيل إلي، وأنا فوق التل، أني أرى أشباحا، ووقعت عيني ثلاث مرات، وأنا أديرها فيما حولي، على أشخاص بيض، وبدا لي - مرتين - أني رأيت مخلوقا أبيض على هيئة القرد يصعد في الجبل بسرعة، وبصرت مرة بعدد منهم يحملون جسما مظلما، وكانوا يغذون الخطى، ولا أدري أين ذهبوا به فقد اختفوا بين الأشجار، ولم تكن الظلمة قد انجابت، ولا النهار طلع، وأحسست بالبرد والقلق وغير ذلك مما يشعر به المرء في البكرة الندية. وشككت في قدرة عيني على الرؤية.
وانبلج الفجر، وطلع النهار، وأفاض نوره على الدنيا مرة أخرى فرميت ما حولي بنظرة فاحصة، غير أني لم أر أثرا للأشخاص البيض، فما كانوا إلا من مخلوقات الخيال في الطفل، وحدثت نفسي أن هؤلاء لا بد أن يكونوا أشباحا، وتمنيت لو دريت من أين جاءت ومن أي عصر خرجت؟ وخطرت لي فكرة لجرانت اللان فقد قال: إذا كان كل جيل يموت يترك في الدنيا أشباحه، فإن الدنيا خليقة أن تكتظ بهم، وعلى هذا الحساب يكون عددهم قد صار لا يحصى بعد ثمان مائة ألف سنة، فغير مستغرب أن أرى أربعة منهم في وقت معا، ولكن هذا المزاح لم يرقني، فظللت أفكر في هذه الأشخاص طول الصباح حتى أنسانيهم إنقاذي للفتاة وينا. وخطر لي أن لعل لهم صلة بذلك الحيوان الأبيض الذي أزعجته في أول بحثي عن آلة الزمان. وكانت وينا نعم العوض عن هؤلاء، ولكنهم، على هذا، كان مقسوما لي أن يستولوا على نفسي ويستحوذوا على خاطري.
وأظن أني قلت لكم إن الجو في هذا العصر الذهبي أدفأ من جونا، وأشد حرارة، ولا أستطيع أن أعلل ذلك، فلعل الشمس كانت أحمى، أو الأرض قد صارت أدنى إلى الشمس، ونحن قد ألفنا السكون إلى الرأي القائل بأن الشمس ستقل حرارتها باطراد في المستقبل، ولكن الذين لا اطلاع لهم على نظريات رجال من أمثال داروين الصغير ينسون أن الكواكب لا بد أن ترجع في آخر الأمر إلى أمها ومصدرها، ومتى حدثت هذه الكوارث زادت الشمس إشراقا وتوهجا بما يضاف إليها ويتجدد منها، ولا يبعد أن يكون أحد الكواكب قد صار إلى هذا المصير، ومهما يكن من ذاك فإن الحقيقة باقية، وهي أن الشمس في هذا المستقبل البعيد أحمى منها في زماننا.
ففي صباح يوم قائظ - اليوم الرابع فيما أظن - كنت أنشد ظلا أتفيؤه من وقدة الحر في خرابة ضخمة قريبة من البيت الذي آكل فيه وأنام، فوقع لي حادث غريب؛ ذلك أني كنت أخطو فوق أكوام الأنقاض فوجدت دهليزا ضيقا سدت نهايته ونوافذه الجانبية كتل الأحجار الواقعة، وكان الظلام في هذا الدهليز لا تنفذ فيه العين في أول الأمر بالقياس إلى النور الساطع في الخارج، فكنت أتحسس طريقي لأن الانتقال من النور إلى الظلمة جعل ومضات خافقة من النور تسبح أمام عيني، ثم وقفت فجأة وقد أذهلني ما رأيت فقد كانت هناك عينان براقتان تراقباني.
وخامرني الخوف الغريزي القديم من الوحوش، فتقبضت كفاي ورحت أحدق في هاتين العينين اللامعتين. وكنت أخاف أن أدور على عقبي، ثم خطر لي أن الإنسان في هذا العصر يعيش في ظل الأمن المطلق، ثم عدت فتذكرت فزع القوم من الظلام، واستطعت أن أغالب خوفي وأن أقهره إلى حد ما، فتقدمت خطوة وتكلمت، وأعترف أن صوتي كان أجش، وغير متزن، ودفعت يدي فلمست شيئا طريا، فتحولت نظرة العينين وصارت عن عرض، وانطلق جسم أبيض يعدو إلى جانبي، فدرت وقلبي في فمي، فرأيت مخلوقا غريبا كالقردة، ورأسه مثني على صدره، يجري ويقطع المسافة التي كان عليها الضوء، وتعثر واصطدم بحجر، وتطرح ثم اختفى في ظل كوم من الأنقاض.
صفحه نامشخص