مختارات من القصص الإنجليزي
مختارات من القصص الإنجليزي
ژانرها
ولما رأيتهم لا يبذلون جهدا لمخاطبتي، ولا يزيدون على الابتسام والتناجي فيما بينهم بأصواتهم الرقيقة، وهم وقوف حولي، بدأت الحديث؛ فأشرت إلى آلة الزمان وإلى نفسي، ولم أدر كيف أعبر لهم عن الزمن فأومأت إلى الشمس فرأيت أحدهم - وهو دقيق الخلق جميله، وعليه ثياب قرمزية مخططة وفيها بياض - يتبع إيماءتي وأدهشني منه أنه حكى صوت الرعد.
فدار رأسي لحظة، وإن كان معنى حركته واضحا، وخطر لي فجأة أن لعلهم بله. وعسير عليكم أن تدركوا ما خامرني من الخوالج. ذلك أني كنت دائما أتوقع أن يكون الناس في المقبل من الأجيال أعلم منا وأفهم، وأرقى في كل باب، وإذا بواحد منهم يفاجئني بسؤال طفل من أبنائنا في الخامسة من عمره؛ فقد كان سؤاله أتراني جئت من الشمس على جناح عاصفة؟ ... وكنت أصد نفسي عن الحكم عليهم، فأطلقت لها أن تحكم بما تشاء على ثيابهم وعلى أجسامهم الدقيقة الضعيفة، ووجوههم الرقيقة. وأحسست بخيبة الأمل، وخطر لي أني ركبت هذه الآلة عبثا.
وهززت رأسي أن نعم، وأشرت إلى الشمس، وحكيت لهم صوت الرعد بقوة أفزعتهم، فتراجعوا جميعا مقدار خطوة وانحنوا ... ثم أقبل علي واحد يضحك، ومعه قلادة من زهر لا أعرفه وزين بها جيدي، فصفقوا له وذهبوا يعدون في طلب الزهور وارتدوا بها وجعلوا يلقونها علي حتى كدت أختنق. وأنتم لم تروا مشبها لهذا؛ فليس في وسعكم أن تتصوروا هذه الزهور العجيبة الرقيقة الغلائل التي أخرجتها العناية بتربيتها سنوات لا يأخذها عد. ثم اقترح أحدهم أن يعرضوا هذه اللعبة - أعني أن يعرضوني - في أقرب منزل، فمضوا بي، ومررنا بأبي الهول الأبيض الذي كان كأنه يراقبني طول الوقت وهو يبتسم لتعجبي، إلى بناء أشهب كبير من الحجر المنقوش. وعادت إلي، وأنا أسير معهم، ذكرى ما كنت أحلم به، وأنا مطمئن واثق، من أن أبناء الأجيال الآتية سيكونون أعمق منا وأقوى عقولا وأعظم رزانة.
وكان للبناء مدخل كبير، وهو عظيم في كل شيء، وكان همي الأكبر بطبيعة الحال هذا الجمع المتزايد الذي يحتشد حولي، وهذه البوابات الضخمة المفتوحة التي تتثاءت أمامي وهي غامضة محفوفة بالأسرار. وكان الواقع العام في نفسي من هذا العالم الذي أنظر إليه من فوق رءوس القوم أنه رقعة فسيحة من الرياض والأزهار الجميلة، طال إهمالها ولكنها مع هذا خلت من الحسك.
ورأيت أعوادا طويلة من زهر أبيض غريب يبلغ طولها نحو قدم، وهي منتثرة كالنبات البري بين الشجيرات، ولكني كما أسلفت، لم أفحصها في ذلك الوقت، وكنت قد تركت آلة الزمان على الحشيش بين الشجيرات.
وكان عقد الباب جميل النقش دقيقه، ولكني لم أدقق في تأمل النقوش وإن كان قد خيل إلي وأنا أجتازه أن فيه من الفن الفينيقي مشابها، وقد بدا لي أن النقوش قد لوحها الجو وأصابها تلف عظيم. ولقيني في الباب كثيرون آخرون من هؤلاء الذين يلبسون الثياب الزاهية. وهكذا دخلنا؛ أنا في ثياب قاتمة من مألوف القرن التاسع عشر، وعلي طوائف شتى من عقود الزهر، وحولي بحر مائج من الأردية اللامعة، والوجوه البيض المشرقة والضحكات الموسيقية والأصوات العذبة.
وأفضى بنا الباب الكبير إلى ردهة فسيحة وكان السقف مظلما، والنوافذ - وجانب منها زجاجه ملون، وجانب لا زجاج فيه - يدخل منها ضوء خافت، والأرض مرصوفة بكتل من معدن أبيض متين - لا بألواح أو بلاط منه، بل بكتل، وكانت قد بلغ من تلفها بكثرة المشي عليها في الأجيال الماضية، أن صارت فيها أخاديد عميقة في المواضع التي طال عليها دب الأرجل. وفي الردهة عدد لا يحصى من المناضد المصنوعة من الحجر المصقول، وهي ترتفع عن الأرض مقدار قدم، وعليها أكوام من الثمار والفواكه، وقد عرفت أن بعضها برتقال وعناب ولكن أكثرها لا عهد لي به.
وكانت الوسائد والمنابذ مطروحة بين المناضد، وعلى هذه جلس القوم وأومئوا إلي أن أجلس، وشرعوا يأكلون الثمار بأيديهم بلا كلفة ، ويلقون بالقشر والأعواد وما إليها في فتحات مستديرة على جوانب المناضد، فقلدتهم، فقد كنت جوعان وظمآن. واستطعت وأنا آكل أن أدير عيني في الحجرة على مهل.
ولعل أقوى ما وقع في نفسي منها منظر البلى والتداعي، فقد كان زجاج النوافذ الملوث محطما في مواضع كثيرة، والأستار مثقلة بالتراب، ولاحظت أن زاوية المنضدة التي أمامي مكسورة. ولكنه كان هناك على الرغم من ذلك جمال وبهاء. وكان في البهو حوالي مائتين يأكلون، وكان أكثرهم يراقبونني وهم جالسون بقربي، وعيونهم الصغيرة تومض من فوق الفاكهة التي يقضمون، وكانت ثيابهم جميعا من ذلك الحرير الرقيق المتين.
وعلى ذكر ذلك أقول إن الفاكهة كل طعامهم، فقد كان أبناء هذا المستقبل البعيد نباتيين، وقد اضطررت أن أكون فاكهيا مثلهم وأنا بينهم على الرغم من اشتهائي اللحم. وقد عرفت بعد ذلك أن الخيل والأبقار والأغنام والكلاب قد اندثرت. وكانت الفاكهة شهية. وأخص منها بالذكر ثمرة لم أخطئها طول مدة إقامتي هناك، كنت أوثرها على سواها. وقد حيرتني في أول الأمر هذه الفواكه الغريبة، والأزهار العجيبة التي رأيتها، ولكني تبينت بعد ذلك خصائصها ومزاياها.
صفحه نامشخص