ويذكرني قول الآخر (ولعله مجنون ليلى):
وأخرج من بين الجلوس لعلني
أحدث عنك النفس في السر خاليا
وإني لأستغشي وما بي نعسة
لعل خيالا منك يلقى خياليا
وقلت له مرة في ذلك، فقال: اسمع يا فلان! لقد خلصت حياتي كلها لها وتجردت نفسي فيها، وانقطعت حواسي إليها، وأصبحت هي جميع مادتي وعناصر وجودي؛ فكيف تريدني على ألا أشتغل بها أو أحتبس على التفكير فيها؟ والله يا فلان! إني لأراها طول يقظتي كما أراها طول نومي، فإنني ما رأيت درة قط إلا حسبت أنها انتزعت من ثغرها، ولا أبصرت مرآة قط إلا ظننت أنها استعيرت من صدرها، ولا طالعت وردة ناضرة إلا خلت أنها قطفت من خدها، ولا تمثل إلي غصن من البان إلا أحضرني صورة قدها، ولا سطع لي عبير إلا شعرت أنه من شذاها، ولا فصحني نور إلا قدرت أنه من إشراق محياها ، ولا سمعت شدو القمري إلا سمعتها تتكلم وتلغو، ولا طاف بي النسيم إلا تمثلتها تلعب وتلهو، ولا طلعت الشمس إلا رأيتها فيها، ولا استتم البدر إلا خلتها تعلو على الدنيا كبرا وتيها، وإني لأرفع بصري إلى السماء فأرى لها هودجا في موكب السحاب، وأخرج إلى الفلاة فإذا هي التي يترقرق بها السراب، فهي سعدي وهي نحسي، وهي نعيمي وهي بؤسي، وهي لذتي وألمي، وهي صحتي وسقمي، وهي نعمتي وبلائي، وهي حياتي وفنائي، ثم أقبل علي وقال لي في خوف وورع: فما حاجتكم إلى أن تقطعوا ما بيني وبين نفسي؟! •••
ولقد ظل صاحبي على شأنه قرابة عشر السنين، وانتهى إليه في بعضها أن الفتاة زفت إلى بعل، وكانت هنالك في ظنه عواثير تحول دون خطبتها له وتزويجها منه، فاجتمع عليه ألم الصبابة وألم الغيرة معا، واستوحش المسكين وآثر الوحدة، وألح على الشراب وأكثر من الخروج إلى الفلوات، ولعله لم يكن يطالع بكل مداخله إنسانا قدر ما كان يطالعني، ثقة منه بإيثاري له وفرط محبته، وكتمان مستوره، وكان رحمه الله إذا عرض الخاطر في هذا يتمثل بقول جميل:
أموت وألقى الله يا بثن لم أبح
بحبك والمستخبرون كثير
عشر سنين! وعشر سنين على مثل هذا كثير: رقة نفس، ودقة حس، وتسعر ذكاء، وغرام بالغ، وشدة وله، وانقطاع وطول مهاجرة، و«أرق دائم وحزن طويل»، ويأس فاره وأمل هزيل، والخمر! الخمر فوق ذلك، تهيج في نفسه وتعربد، وتسرف في عمره وتبدد، ورسل الموت تتوالى، ونذر الطب تتدارك وتتتالى، وماذا يعني صاحبنا من كل أولئك؟ أليس يعيش لها؟ فخير له أن يموت فيها!
صفحه نامشخص