مات شوقي، ولو كان شوقي كسائر الناس ما كان لموته جليل خطر، ولرب رجل يموت فلا يفرق المجموع بين موته وحياته، ولكن موت شوقي شيء آخر: أرأيت إلى النهر إذا يبس، وإلى المطر حين يحتبس، ووا رحمتاه إذا للسارين لحق النجم الغروب، وقد تشعبت الطرق واختلفت رءوس الدروب!
لقد كان شوقي نعمة من النعم العامة التي تفضل الله بها على هذه البلاد، بل التي تفضل بها على أبناء العربية جمعاء، فموته من المصائب العامة التي يحس خطرها كل امرئ يقدر روعة الفكر، ويحتفل لأبهى صور الجمال.
ولو أن الله تعالى بعث الشعور في مظاهر هذه الطبيعة، وأقدرها على النطق، لشارك في إحياء ذكرى شوقي: البحر الخضم، والجبل الأشم؛ والفلك الدائر، والنجم المختلج الحائر؛ والعود إذا أورق، والزهر إذا نور وأشرق؛ ولاجتمعت لمأتمه كل سجوع من بنات الهديل، يقمن عليه المناحات بأحد البكاء وأحر العويل، فلقد طالما أضحك وسرى، ولقد طالما أطرب وأشجى، ولكم جلا من صور الطبيعة فأجاد وأحكم، وأنطق الصخر في مرسخه لو كان الصخر يتكلم، ولكم لاغى الطير غادية ورائحة، ولكم لاعب الغزلان شاردة وسانحة، ولكم داعب الغصن حتى تثنى خصره، وغازل الزهر حتى تنفس أرجه وعطره.
شوقي لم يمت، ومثل شوقي لا يموت أبدا، بل إنه ليزداد حياة على تطاول الأجيال، هذا شوقي حي أقوى الحياة في بيانه القوي، وسيظل هذا البيان المشرع العذب النمير ينهل منه بنو العروبة ما قدرت للعربية في هذه الدنيا حياة.
عدو صميم، أم ولي حميم؟ ...1
تلقيت هذا الكتاب من حضرة الكاتب الأديب صاحب الإمضاء، وإني مثبته بنصه في «المصور» من غير تغيير ولا اختصار:
حضرة ... «فلان» لقد حيرني وأقلق فيه منطقي وأزعج تفكيري، وأفسد علي حسي، فما عدت أدري أأحبه أعظم الحب، أم أبغضه أشد البغض، ولا أعلم أأكبره غاية الإكبار، أم أنني لا أجن له إلا أبلغ الازدراء والاحتقار، فإني والله لا أعرف أكان هو أصدق أصدقائي، أما كان هو أعدى أعدائي، إنه لأحد هذين على أي حال، أما أنه ليس هذا ولا هذا فذلك المحال كل المحال!
إنه يحفظ غيبي، ولا يأذن لأي كان بأن يبسط في لسانه بمقال سوء، ولو جشمه ذياده عني في غيبتي ما جشمه، ما في ذلك شك ولا إلى جحوده سبيل!
وإني لقد يعتريني المرض، ولقد يحزبني من أمر الدنيا حازب، وتعتريني الأيام ببعض المكروه، فيكون هو أول من يطلع علي، ويستطب لدائي، ويتفقد علاجي، ويستوثق من مواظبتي على دوائي، ويكون هو أشد الناس اهتماما بمواساتي، وأعظمهم اجتهادا في تسليتي والتسرية عني، ولا يزال هذا شأنه حتى أصح وأبرأ، وتعود إلي طمأنينتي، ويذهب الله عني ما أجد من وجد وأسى، ما في ذلك شك، ولا إلى جحوده سبيل!
ولقد ترق حالي، ويلح العسر علي، فما إن يكاد يعرف هذا ولو من طريق التفرس، فليس من خلقي التشكي، حتى يجمع همه ويركب رأسه، لا يسكن ولا يفتر ولا يهمد له سعي، أو يصيب لي عملا كريما يجرى علي ما أعود به على شملي، ولقد يفعل هذا على غير علمي وفي سر مني، ولقد يغلو في أن يكتمني سعيه لكيلا يجرح شعوري، أو يحرج نفسي بما يجهد في شأني، ما في ذلك شك ولا إلى جحوده سبيل!
صفحه نامشخص