ولقد علمت أن الشاعر إنما يتكئ في فنه أكثر ما يتكئ على الخيال، حتى لقد ذهب أكثر النقدة إلى أنه ليس شعرا ذلك الكلام الذي يجري في الحقائق المجردة وإن كان مقفى موزونا، ولقد عرفت أثر الخيال في تلفيق الحقائق وتزييفها وطبعها على غير صورها الواقعة، لهذا نفى الله تعالى أن يكون كتابه الحكيم شعرا ونفى أن يكون رسوله الكريم شاعرا:
وما هو بقول شاعر ،
وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين
يرد جل مجده بهذا وبغيره دعوى الكفار أن القرآن شعر، على معنى أنه من تلفيق الخيال وتزييفه، كما رد دعواهم أنه سحر، والسحر ما يواري حقائق الأشياء، ويجلوها على صور تتمثل للأوهام بخداع الأسماع والأبصار:
سحروا أعين الناس ،
يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى
إنما الكتاب كله حق وصدق ومنطق صحيح
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ،
إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ، وهذا هو الأليق بحجة الرسالة، وآيات الله المعلمة على طريق الهدى وعلى طريق الضلالة.
ومن البديه أن الشعراء لا يطلقون أخيلتهم في فنون المعاني لمجرد العبث بقلب الأوضاع، ومسخ الأشكال، والتلفيق بين الحقائق، إنما الغاية كل الغاية أن تجلو عليك هذه الأخيلة صورا طريفة بديعة لهذا الذي أدركته من الواقع، أو تترجم لك عما يدق عن فهمك من معانيه ومغازيه، أو تكمل لك وتبسط بين يديك ما ترى أن الطبيعة قد قصرت فيه وانقبضت دون حبكه وتسويته، ونحو هذا مما يرهف الحس، ويمتع النفس بمطالعة صورة من صور الجمال الفني في أي وضع من أوضاعه، وعلى أي شكل من أشكاله.
صفحه نامشخص