333

ولقد يدخل المجلس بالحديث في الصيد والطرد، ومعاناة الأهوال، في مقارعة الفيلة والأوعال، فيسرع «البطل» أيضا، وأعني به هذا الذي كان منه كل ما مر بك من الكلام، فيقول: بينا نحن في الصيد والقنص في إحدى الغابات المهولة، وهنا أرى واجبا علي أن أنبهك، يا سيدي القارئ، إلى أنه ليس من اللياقة، ولا من الذوق، ولا من أدب الإصغاء إلى الحديث، أن تعترضه بالسؤال عن موضع هذه الغابة، وهل يكون في الهند، أو في أواسط أفريقيا، أو في جنوب أمريكا، أو في بلاد المجر، أو في حديقة الأزبكية إلخ، فإنه ليس لك عليه، إلا أنها غابة مأهولة بسباع الوحش والطير، من أسود ونمور، ووعول وفيلة، وأيائل وقردة، وبواشق وصقور، وبوار ونسور! ... ليس لك إلا أن تعلم أنها غابة حافلة بكل أولئك، ولتقع هذه الغابة بعد ذلك من أرض الله حيث تشاء!

ويتم «البطل» الحديث، فإذا به قد انفرد ذات يوم عن الرفقة من الصادة وإذا أسد ضار يخرج عليه يمشي نحوه «مترفقا من تيهه»، ويتفقد صاحبنا «المسدس» فإذا رصاصاته قد نفدت كلها ما بقيت منها واحدة، فكيف العمل والأمر خطير والخطب جلل؟

لخير أن يبادر الأسد بالوثبة، ويعاجله بالهجمة، فيتناول بيسراه أسفل صدغه، أي صدغ الأسد، عند معقد الفكين، ويضغطها ضغطة شديدة ينفغر بها فمه، ولا يستطيع له بعد ذلك تحريكا، ثم يسرع فيدسس يمناه في جوفه حتى تصل إلى قرارته، ثم يجذبه من أسفله جذبة عنيفة حتى يخرج ذيله من فمه، أفرأيت كيف يقلب الجورب بأيسر جهد اليد؟ وكذلك أضحى الأسد ظاهره باطنه، وباطنه ظاهره، كما أضحى رأسه في مكان ذيله، وذيله في موضع رأسه؟!

ثم لقد يتلطف فيسأل الجماعة أن يزوروه في داره يوما ليطلعهم على هذا المنظر العجيب! •••

وبعد، فلو عرض الحديث لكنس الدار، أو لغسل «الحلل»، أو لجلاء «عساكر السرير»، أو لتمزيق الورق، أو لكيفية تجفيف العرق، لما عزه أن يجلو عليك «بطولة» له فيها، يعضدها بمختلف الشواهد، وينظم لها ألوان الغرائب عقودا وقلائد! •••

أما الغرام وأحاديث الغرام، فذلك ما سارت به الأخبار، وروته عن صحفها الرهبان في الأديار، ولست أطيل الحديث عليك يا سيدي القارئ، فلو قد ذهب ذاهب إلى استقصاء ما وقع في هذا الباب «لبطل» واحد من هؤلاء «الأبطال»، لما وسعته الأسفار الضخام، ولاستهلك تدوينه الشهور والأعوام، وعلى ذلك فقد عزمت على ألا أروي لك إلا نادرة واحدة من تلك النوادر، ولك أن تقيس عليها آلاف الآلاف، مما يقع لهم في كل ليل وكل نهار، على توالي الأزمان وتعاقب الأدهار:

كنت جالسا ذات عشية على حاشية أحد المقاهي، فصب علي القدر «بطلا» من جبابرة هؤلاء «الأبطال»، وما كاد يستوي إلى مجلسه من المنضدة ويسترجع نفسه من جهد السير، حتى قال لي: لقد حدث في ليلة أمس يا فلان شيء عجيب!

قلت: وكيف كان ذلك جعلت فداك؟

قال: بينا أنا جالس هنا وقد انحرف عقرب الساعة عن العاشرة، إذ جاء غلام من ماسحي الأحذية، وأسر إلي أن هناك من ينتظرني في منعطف الحارة، ثم تركني ومضى مهرولا فتبعته، فإذا سيارة من طراز «إسبانيوسويس»، وبابها مفتوح، وقد قبض على «أكرته» الفضية «جروم» فتى كأنما صيغ من خالص الجوهر، وإذا صوت كأنه صوت كروان تحمله نسمة من نسمات السحر، وسمعت كلمة «ادخل»! فرفعت بصري فإذا جوف السيارة يضيء ولكن من غير سراج، فأدرت بصري الحائر، فإذا مبعث الضوء وجه يتألق تألق البدر، ليلة انتصاف الشهر! - ادخل! ادخل سريعا! - لعل في الأمر خطأ يا سيدتي؟ - ليس هناك خطأ، ألست فلانا؟! - نعم يا سيدتي! - إذن فأنت طلبتي، ولست أنا ممن يخدع على هواه!

وما كدت أظهر التثاقل والتمنع حتى جذبتني من يدي، وجعل «الجروم» والسائق يتظاهران كلاهما على دفعي من خلفي، وسرعان ما أغلق الباب، وأخذ كل من السائق و(الجروم) مجلسه في أسرع من رد الطرف، وطارت بنا السيارة كل مطار، حتى صارت بنا إلى غاية شارع الهرم، ثم انحرفت بنا في طريق الصحراء، وتدلى السائق وصاحبه، فعصبا عيني بمنديل حريري موشى الحواشي بالذهب، فارتعت وأخذ مني الذعر كل مأخذ، فأفرخت روعي، وحلفت لي بكل محرجة من الأيمان أنه لا يراد بي مكروه أبدا، وما زالت بي تلاطفني وتؤانسني حتى تطامنت وثابت لي نفسي.

صفحه نامشخص