189

وبقيت كالرجل المدله عقله

أشكو الزمان وأضرب الأمثالا

سالمت عذالي فآبوا بالرضا

عني وكنت أحارب العذالا

ومقد علمت بأنه ما من فتى

إلا سيبدل بعد حال حالا

يا حافظ! إن الرجل العظيم ليموت فيخلو بموته موضع واحد، أما أنت فلقد أخلى موتك مواضع كثيرة: أنت شاعر النيل غير مزاحم؛ فلقد اتصل شعرك بمائه، وامتزج بواديه أرضه وسمائه، وشدا في نعمائه وسرائه، وناح في بأسائه وضرائه، وأنت الكاتب لا يلحق في حسن الصياغة غباره، ولكن تترسم إذا أعوز تجويد النسج آثاره، وأنت الأديب التام؛ تضرب في فنون الأدب كلها ما تشرد عليك شاردة، ولا تند عنك منها مستأنسة ولا آبدة، وأنت المحاضر كأنما يخوض منك جلاسك في عباب، أو كأنما يقرأون منك في كل باب أسبغ كتاب، وأنت السمير ما تبرح تشيع في مجلسك الطرب، وما يبرح جلاسك يتنزون لحديثك من إعجاب ومن عجب، وأنت الذكي الألمعي ويا له من ذكاء كان مثل سنا البرق، يومض من جانب الغرب فيسطع في عرض الشرق، وأنت، وأنت، وأنت يا حافظ! لقد كنت معاني كثيرة، وكنت مباهج من مباهج الحياة عديدة، فقدر يا أخي، رحمك الله، جملة مصائبنا فيك!

أنا هنا إنما أبكي حافظا لا أنشر مناقبه؛ فلذلك بعد مقام عريض. •••

وبعد، فلقد تعذرت على رثاء حافظ طويلا ضنا بنفسي على إظهار الناس على ما يشهدون اليوم من حيرة ووله واختلال أعصاب، ولكن لقد بعثني على هذا من أصدقائي من لا أستطيع مدافعتهم، وإظهار الخلاف لهم، فحقت علي قولة الشاعر:

ألا يا حمامي قصر زوران هجتما

صفحه نامشخص