كذلك كان مما يلفت النظر في شأن المويلحي أنه شديد الاستيحاش من الناس، فلا تراه يستريح بالحديث إلى من لا يعرف منهم ولم يألف، ولقد يكون في مجلس يجمع الصفوة من خلانه، ومعهم رجل لا يعرفه، فإذا هو يفتر وينقبض حتى يكاد «يوحش في المجلس»، وعلى هذا لقد كان يكره بالطبع الدخول في زحمة الناس، والترائي للجماهير، وما إلى هذا من مقتضيات الظهور.
ومن أجل صفات هذا الرجل حدة العزم، وقوة الصبر، وشدة الحمل على النفس، فما إن رأيته يوما شاكيا ولا مظهرا للبرم بالحياة مهما كرثه تصرف الحياة، ولقد يكثر المال في يده فيبسطها، إلى ما يقرب من السرف في النفقة في حاجاته، وإصابة ما يحلو من المتع واللذائذ، ولقد يرق المال في يده فيلزم داره الشهرين والثلاثة لا يبرحها أبدا، متجملا في عامة شأنه بما عنده مهما يبلغ من القلة، لا يسأل أحدا عونا، ولا يطالع الصديق بحاجة.
كذلك كان من أجل صفاته الصدق في القول، ولقد عاشرته ما عاشرته، فما أذكر - والذي نفسي بيده - أنني أحصيت عليه كذبة واحدة قط، ولا من ذلك النوع الذي يتورط فيه المرء في مصانعة الناس ومجاملتهم، فإن ألحت التقاليد عليه في شيء من هذا سكت أو ورى، ولقد أذكر أنه قابل ولي الأمر الأسبق في يوم من أيام رمضان، فسأله: أصائم أنت يا محمد بك؟ فأجاب من فوره: «والله ما أكذبش عليك يا أفندينا!» فضحك ملء شدقيه من هذا الجواب! •••
ثم لقد كان رحمه الله شديد العناية بالنظافة في جميع ملابساته، متأنقا عظيم التأنق في كل شيء، يحب الزهر ويكلف به، ويحسن تأليفه وتصنيفه، ولا يمس إلا أزكى العطر وأغلاه.
وكان شديد الاحتفال للطعام، مبالغا في التأنق فيه؛ ولربما طالع طاهيه المرات الكثيرة في مطبخه، يتقدم إليه بأن يفعل بهذا اللون كذا وكذا، ويصنع بتلك الصحفة كيت وكيت، وهو بهذا حق خبير، فإذا قرب إليه طعامه اجتمع له اجتماع شهوان يلتذ به أيما التذاذ، على أنه مع هذا كان حسن المأكل، يلتزم في تناوله وإزلاقه أعلى الآداب.
وكان رجلا طبا، كأن طول تمرينه في النقد الكتابي قد طبعه على النقد في كل شيء، وأنضج ملكته فيه، فلا تراه يتخذ شيئا في أي سبب من أسبابه إلا إذا فحص ونقد وتخير، فما يكاد يخدع على أمر أبدا!
وهو بعد يحب النكتة البارعة ويحتفل لها، على أنه إذا وصل المجلس بينه وبين أصحابه ممن حذقوا هذا الفن وبرعوا فيه، من أمثال المرحومين السيد محمد البابلي، ومحمد بك رشاد، ومحمد بك رأفت، لم يكن في الغالب هو المنشئ للنكتة والمبتكر لها، ولكنها ما تكاد تسقط من فم غيره حتى يتولاها بالتخريج والمط والتوليد والتلوين، فما ينتهي أحد في ذاك منتهاه.
ومهما يكن من شيء فإن هذا الرجل كان من أوسع الناس علما بطباع المصريين وأخلاقهم وعاداتهم ومداخل أمورهم، على اختلاف طبقاتهم وتفاوت مراتبهم، فإذا تحدث في هذا الباب فحديث المتمكن الخبير.
ومما ينبغي أن يذكر له، ويختم به هذا الحديث، أنه رجل لم يجد الإلحاد ولا الزيغ إلى قلبه السبيل؛ بل لقد كان مؤمنا شديد الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، والحمد لله رب العالمين، فإن رأيت منه شيئا من الانحراف في تخريج مسألة جزئية من مسائل الدين، فأحل الأمر على مجرد الخطأ في الاجتهاد والتأويل.
رحمه الله رحمة واسعة، وغفر لنا وله، وأحسن جزاءه في دار الجزاء.
صفحه نامشخص