قرأت كتبا وأقاصيص لأعيان الكتاب والمؤلفين متقدميهم ومن تأخر منهم، وليس شيء منها يقل عن «مجدولين» غرابة حوادث، وقوة خيال، وصحة معان، ونصاحة أسلوب، ورشاقة لفظ، وصفاء ديباجة، فلم تثر من شجوني، ولم تنل من شئوني بعض ما نالت «روايتك»، فعمرك الله كيف صنعت حتى برعت هؤلاء جميعا، وبلغت من نفوس القارئين ما تثلمت دونه كل أولئك الأقلام؟!
إني محدثك الحديث وأنت به أخبر! لقد كان ظن كثير باللغة أنها لا تنبسط إلا لما يتحرك في أذهانهم، وما تجول به أفكارهم ، وما تناله حواسهم، وحسبهم بهذا القدر الذي تستقيم به أمورهم، وتنتظم به معايشهم، وتتسق لهم به أسباب اجتماعهم في هذه الحياة.
أما تلك المعاني التي تعتلج في قرارات النفوس، وتترقرق في أطواء القلوب، وتضطرم في حنايا الضلوع، فهيهات أن ينتظمها الكلام، أو تشكها أسلات الأقلام!
تلك المعاني التي يبعثها في نفس الفتى مرأى الشمس إذا برزت من خدرها، والوردة إذا خرجت من كمها، والبدر إذا تألق في كبد السماء، والآل إذا ترقرق على متن الصحراء، والبرق إذا لمع، والسحاب إذا همع، والحمام إذا سجع، والعبير إذا سطع، والزهر إذا طله الندى، فأقبل النسيم يحمل إليك منه عرف الشذا، والجوزاء إذا تبدت في عقد مؤتلف النظام، والحسناء إذا افترت عن مثل حب الغمام - وما إلى هذا من ألوان المعاني وفنون الإحساس التي يدركها أولئك الذين صفت طباعهم، ورهفت مشاعرهم، في حال عشقهم وصبوتهم، وفي سعادتهم أو في شقوتهم، وفي مراحهم ولهوهم، أو في حزنهم وشجوهم.
لقد عيت لغة الناس بأداء كل ذلك وانخذلت دونه، وتقدم للتعبير عنه ما تراه من فتور النظرة، وانهمار العبرة، وانعقاد ما بين العينين، وانبساط الأسارير، وتربد الوجه، واحمرار الوجنة، وانتقاع اللون، وما تسمعه من نفثة مصدور، وأنة مهجور، وآهة عان، وزفرة غيران، ومثل هذا مما يدعوه أصحاب المنطق بالدلالة الطبيعية.
هذا ظن الناس باللغة؛ وبخاصة لغة العرب، حتى أخرجت لهم «مجدولين» فإذا قلم لم يتعذر عليه معنى، ولا تحرج عليه مذهب من مذاهب الكلام؛ وكأني به وهو يتدسس في القلوب تدسسا، فلا يزال يتعطف حتى يبلغ منها مجامع الإحساس، فما طلب في صميمها معنى إلا أصابه، ولا أراغ في قرارها عاطفة إلا شكها، ثم استلها فجلاها في «مجدولين»، بلسان عربي مبين!
فإذا بهرت قراءك «مجدولين» فلأنهم يسمعون فيها أحاديث عواطفهم، ويرون في أثناء سطورها عصارة قلوبهم؛ فما يدري أحدهم إذا اطرد في قراءتها: أهو في حديث نفسه أم أنه يتلو قصص غيره في كتاب؟!
ذاك أيها السيد، سر روعتي وإعجابي، ولئن سقطت إلى الكتاب هنات قليلة لا تطمئن إليها قوانين اللغة، فحسبك أنك أتيت فيها بما قطت دونه أنامل كثير من الكتاب، على تطاول الأزمان والأحقاب!
إني أهنئك يا أخي، وأهنئ هذه الأمة، فلقد كانت «مجدولين» فتحا جديدا للغة العرب.
إفلاس!1
صفحه نامشخص