3 - وحدثني أحمد بن دعيم -وكان من خاصة قواد أحمد بن طولون- بعد أن ترك الديوان، وحسن انقطاعه إلى الله، قال: ((قلدني أحمد بن طولون الصعيد الأوسط. وخرج عليه سوار أبو عبد الرحمن العمري، فكتب إلي يستخبرني عن حاله، فأعلمته ضعف يده، وانتشار أمره لقلة المال. وقبضت على رئيس من الأعراب اتهمته بمكاتبته وأنهيت خبره إليه. فكتب إلي أحمد بن #9# طولون: يأمرني بحمل الأعرابي، [وجمع ] ما قدرت عليه من النجب، والشخوص إليه؛ ليقف من مشافهتي على مالا تبلغه المكاتبة. فامتثلت أمره.
فما سرت مرحلة حتى لحق بي وجوه تجار العمل، ومعهم شاب أعرابي، وقالوا لي: ((جئناك في أمر هذا الأعرابي المحمول، فإن معنا من يبذل في إطلاقه خمس مائة دينار))؛ فقلت لهم: ((قد أنهيت أمره إلى الأمير!))؛ فقال الأعرابي الذي معهم: ((فخذ الخمس مائة على أن تجعلني مكانه))؛ قلت: ((أفعل)). فأحضرت الأعرابي؛ وكان من عشيرتي؛ فقلت له: ((والله لقد كنت مغموما بك حتى سرني خلاصك!))؛ قال: ((بماذا تخلصت؟ فقلت: ((بذل لي رجل خمس مائة دينار على أن يكون بمكانك وأطلقك!)).
فقال: ((ومن هذا الرجل؟))؛ فأحضرته إياه. فلما رآه قال: ((امض لشأنك))، ثم التفت إلي فقال: ((يحسن بشيخ مثلي أن يتربح في المعروف؟ هذا رجل لقيته وقد أكبت عليه خيل لتسلبه ثيابه وما كان معه، ففرقتها عنه حتى تخلص، فرام أن يخلصني بحصوله في موضع لا يخرج منه أخرى الليالي، و[هو] غرم ثقيل على مثله. والله هذا مما لا أقبله ولا أركن إليه))، فقلت له: ((انصرف في حفظ الله فقد رضي الرجل))، فقال: ((والله لئن أمضيت هذا لألحقنك، ولأخبرن الأمير بصنيعك))، فتوقفت، وبكى الأعرابي فقال: ((إذا كان محبس الأمير على ما تصف، وليس ترجو خلاصا منه؛ فما أعمل في عارفتك عندي؟ وأنا أنشدك الله لما قبلت مني ما بذلته وأعظم منه؛ وأزلت هذه العارفة عن عنقي؛ فإن عارا ونقيصة على الكريم أن يموت وعليه دين من ديون المعروف))؛ فقال له: ((إذا رأيت رجلا أحاطت به خيل تريغ سلبه فذدتها عنه؛ فقد #10# كافأت عارفتي؛ انصرف مصاحبا)). فعرض عليه ما معه من المال؛ فقال: ((ما بي إليه حاجة!))، فأكب على رأسه ورجليه يقبلها ويبكي؛ فأبكى جماعتنا.
فلما دخلت على أحمد بن طولون شافهته من خبر العمري بما سره؛ وعرضت عليه النجب؛ فقال: ((حسنة والله))؛ فقلت: ((معي أيها الأمير ما هو أحسن من هذا)). وحدثته الحديث. فأحضر الأعرابي وخلع عليه وأثبته في ديوانه، وأمرني بإنفاذ رسولي معه في الأعرابي الآخر، فلما وافى خلع عليه وأثبته. فلم يزالا في خاصته إلى وفاته.
صفحه ۸