مجمل تاريخ دمياط : سياسيا واقتصاديا
مجمل تاريخ دمياط : سياسيا واقتصاديا
ژانرها
صناعة النسيج، صناعة قديمة قدم المدينة نفسها.
ووصف المقدسي - وهو من جغرافيي نفس القرن - تنيس وصفا جميلا يدل على عظم مكانتها في ذلك العصر، قال: «تنيس ... مدينة وأي مدينة، هي بغداد الصغرى، وجبل الذهب، ومتجر الشرق والغرب، أسواق ظريفة، وأسماك رخيصة، وبلد مقصود، ونعم ظاهرة، وساحل نزيه، وجامع نفيس، وقصور شاهقة، ومدينة مفيدة رفقة، إلا أنها في جزيرة ضيقة، والبحر عليها كحلقة ملولة قذرة، والماء في صهاريج مغلقة، أكثر أهلها قبط ... وبها يعمل الثياب والأردية الملونة.» وترك المقدسي تنيس إلى دمياط، فرآها تفضل أختها في كثير، فقال مقارنا: «دمياط ... تسير في هذه البحيرة (بحيرة تنيس) يوما وليلة إلى مدينة أخرى، هي أطيب وأرحب، وأوسع وأفسح وأحزب، وأكثر فواكه، وأحسن بناء، وأوسع ماء، وأحذق صناعا، وأرفع بزا، وأنظف عملا، وأجود حمامات وأوثق جدارات، وأقل أذايات من تنيس، عليها حصن من الحجارة، كثيرة الأبواب.»
ولسنا نعرف بالتحديد عدد مصانع النسيج في دمياط في القرون العربية الأولى، ولكن المسعودي ذكر أن تنيس كان بها نحو خمسة آلاف منسج، فإذا تذكرنا قول المقدسي إن دمياط كانت أوسع من تنيس وأفسح، وأحذق صناعا وأرفع بزا، استطعنا أن نقول إن دمياط كان بها في نفس الوقت نحو ستة آلاف منسج على أقل تقدير.
وكانت هذه المصانع تنتج الأقمشة الشعبية، كما كانت تنتج الطرز الملوكية مما يلبسه الولاة وأسراتهم، ومما يخلعه هؤلاء الولاة على الأمراء ورجال الدولة، أو مما يهدى إلى الخليفة والسفراء والملوك.
واختصت دمياط والمدن المحيطة بها منذ أوائل العصر العربي بنسيج كسوة الكعبة، ومع أن مصر كانت ولاية تابعة للخلافة العباسية، فإن الخلفاء العباسيين كانوا يأمرون بصناعة الكسوة التي يرسلونها إلى الكعبة في مصانع دمياط ومدنها. ولم تكن مدينة من هذه المدن تستأثر وحدها بصناعة الكسوة، بل كانت جميعا تتبادل هذا الشرف؛ فهي مرة تنسج في شطا، ومرة أخرى في تنيس أو تونة أو دمياط ... إلخ.
وكانت دمياط - كما ذكرنا - تنسج المنسوجات البيضاء وحدها، كما كانت تنيس تصنع المنسوجات الملونة، وكان ينسج في دمياط وتنيس نوع من الثياب الدقيقة الرقيقة يسمى البدنة، يباع الثوب منه - إذا نسج من الكتان وحده - بمائة دينار، وإذا نسج من الكتان والذهب بمائتي دينار، ويقول ابن زولاق: «ويبلغ الثوب الأبيض بدمياط وليس فيه ذهب ثلاثمائة دينار.»
ويبدو أن دبيق كانت تمتاز علي رصيفتيها دمياط وتنيس في أول العصر العربي بجودة نسيجها ومتانته؛ ولهذا أطلق العراقيون في ذلك العصر على إحدى قرى بغداد «دبقية»، وكانوا يبيعون منسوجاتها على أنها دبيقية لتروج في السوق رواج منسوجات دبيق المصرية المشهورة بالجودة والمتانة.
روينا أن المسعودي ذكر أن تنيس كان بها خمسة آلاف منسج، وقدرنا نحن أن مناسج دمياط كانت تزيد على هذا العدد، فإذا أضفنا إلى هذه وتلك مناسج المدن المجاورة المحيطة بدمياط كتنيس ودبيق وبورة وتونة ودميرة؛ استطعنا أن نعرف أن إنتاج هذه المنطقة من المنسوجات في ذلك العصر كان إنتاجا ضخما يغطي حاجة السكان ويفيض منه قدر كبير يصدر إلى الخارج. ولسنا نقول هذا استنتاجا وإنما يؤيدنا فيه أقوال المؤرخين، وكانت أكبر كمية من هذه المنسوجات تصدر إلى العراق مقر الخلافة العباسية، وبلغت منسوجات دمياط شهرة عظيمة في بلاد فارس حتى إن أكبر مدينة فارسية لصناعة النسيج - وهي كازرون - كانت تسمى «دمياط الأعاجم» وكانت منسوجات دمياط وما حولها تصدر أيضا إلى جدة، وقد تحمل منها إلى الشرق الأقصى، فالمقدسي يروي أن الضريبة التي كانت تؤخذ بثغر جدة «على سفط ثياب الشطوي ثلاثة دنانير، ومن سفط الدبيقي ديناران.»
وكانت مصانع النسيج في المدن المصرية في العصر العربي تسمى: «دار الطراز»، وكان في كل مدينة من هذه المدن نوعان من هذه الدور؛ دار طراز الخاصة، ودار طراز العامة، والراجح أن النوع الأول - وهو دار طراز الخاصة - كان ينتج المنسوجات التي تصنع منها كسوة الكعبة أو ملابس الخلفاء والوزراء والولاة ونسائهم أو الخلع التي يخلعها هؤلاء جميعا على القواد والعلماء وكبار رجال الدولة، أما النوع الثاني - وهو دار طراز العامة - فكان ينتج المنسوجات التي تباع للشعب أو تصدر للخارج.
وكانت هذه الدور جميعا ملكا للحكومة تشرف عليها، وتعين موظفيها، وتؤجر عمالها، كما كان يقوم إلى جانب هذه الدور مناسج أهلية يعمل فيها الأهلون لحسابهم - النساء يقمن بالغزل والرجال يقومون بالنسيج، ولكن الحكومة كانت تشرف أيضا على هذه المصانع الأهلية، فكانت تمد النساجين بالمواد الخام، فلا يستعملون منها إلا ما كان عليه خاتم السلطان، أما مصنوعاتهم فما كانوا يستطيعون بيعها إلا عن طريق موظف الحكومة المعين لذلك. أما الأقمشة المعدة للتصدير فكانت تخضع لنظام حكومي دقيق، كل ذلك للمحافظة على القيمة الصناعية للمنتجات وعلى المستوى الرفيع الذي اكتسبته وامتازت به منسوجات هذه المنطقة.
صفحه نامشخص