الموجز لأبي عمار عبد الكافي تخريج عميرة ج1
من مكتبة التراث
الموجز
لأبي عمار عبد الكافي الأباضي
الجزء الأول
خرج أحاديثه وعلق على نصوصه
الدكتور
عبد الرحمن عميرة
دار الجيل
بيروت
تمهيد بقلم المؤلف
إن الحمد لله رب العالمين، [و] صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، [و] الحمد لله مبطل كيد الجاحدين، والكاشف بأنوار حججه أستار المبطلين، والمبين ما طمس أهل الزيغ والعمى من سبيل المهتدين.
أما بعد _أيدك الله (¬1) _ فإني نظرت في جميع أصول الملحدين (¬2) فإذا هي أربعة أصول، ثم نظرت في كل أصل منها فإذا هو محصور على ثلاثة فصول، فاقتصرت لك بذلك عن تصنيف مقالاتهم قولا قولا، وعن تعديد فصولهم فصلا فصلا، ليتيسر ذلك للناظر، ويسهل على المتعلم، ويخف على الحافظ، والله ولي التوفيق.
أما الأصل الأول منها: فهو قول أهل الدهر المنكرين لحدوث العالم. والأصل الثاني: قول الثنوية القائلين بالنور والظلمة.
والأصل الثالث: المنكرون لرسالة الرسل، صلى الله على محمد وعلى جميع المرسلين.
¬__________
(¬1) - في (ب) لفظ "التوفيق والسداد".
(¬2) - لحد بلسانه إلى كذا مال. قال تعالى: {لسان الذي يلحدون إليه} (سورة النحل:103). من لحد وقرئ (يلحدون من ألحد، وألحد فلان مال عن الحق). والإلحاد ضربان:
إلحاد إلى الشرك بالله، وإلحاد إلى الشرك بالأسباب، فالأول ينافي الإيمان ويبطله، والثاني: يوهن عراه ولا يبطله، ومن هذا النحو قوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد نذقه عذاب أليم} (سورة الحج:25).
وقوله تعالى: {الذين يلحدون في أسمائه} (سورة الأعراف: 180). والإلحاد في أسمائه على وجهين: أحدهما: أن يوصف بما لا يصح وصفه به، والثاني: أن يتأول أوصافه على ما لا يليق به.
والتحد إلى كذا مال إليه، قال تعالى: {ولن تجد من دونه ملتحدا} (سورة الكهف:27). أي التجاء، أو موضع التجاء.
صفحه ۱
والأصل الرابع: هو ما يتعلق به أهل التشبيه من هذه الأمة المنتحلين (¬1) لهذه الملة (¬2) ، فهذه الأصول الأربعة.
...
فصول الأصل الأول:
الفصل الأول من الأصل الأول هو ما انتحله المنجمون، والفصل الثاني هو قول أهل الطبائع، والفصل الثالث مذهب أرسطاطاليس وأصحابه . وسنأتي على صفة كل فصل منها إذا نحن صرنا إلى موضع الرد عليهم إن شاء الله.
فصول الأصل الثاني:
¬__________
(¬1) - النحلة والنحلة: عطية على سبيل التبرع، وهو أخص من الهبة إذ كل هبة نحلة، وليس كل نحلة هبة.
والانتحال: ادعاء الشيء وتناوله، ومنه يقال فلان ينتحل الأمر. راجع مفردات غريب القرآن: 485.
(¬2) - الملة: كالدين، وهو اسم لما شرع الله تعالى لعباده على لسان الأنبياء ليتوصلوا به إلى جوار الله، والفرق بينها وبين الدين: أن الملة لا تضاف إلا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي تسند إليه، نحو "اتبعوا ملة إبراهيم"، "واتبعت ملة آبائي"، ولا تكاد توجد مضافة إلى الله ولا إلى آحاد أمة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا تستعمل إلا في جملة الشرائع دون آحادها، لا يقال: ملة الله، ولا يقال: ملتي وملة زيد، كما يقال: دين الله ودين زيد، ولا يقال: الصلاة ملة الله. وأصل الملة: من أمللت الكتاب، قال تعالى: {فليملل الذي عليه الحق فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل} (البقرة: 282). وتقال الملة باعتبار الشيء الذي شرعه الله، والدين يقال اعتبارا بمن يقيمه إذ كان معناه الطاعة. والله أعلم.
صفحه ۲
أما الفصل الأول: منها مقالة المنانية، والثاني مقالة الديصانية، والثالث قول المرقيونية، والمنكرون لرسالة صلى الله على محمد وعلى جميع المرسلين على ثلاثة فصول: الأول مذهب البراهمة، والثاني مقالة المجوس، والثالث مذاهب أهل الكتاب على اختلاف مللهم، فهم جميعا مجمعون على التكذيب لرسالة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعلى جميع المرسلين.
المشبهة: (¬1)
فأما المشبهة من هذه الأمة، فإنها تنازعت في معبودها على أقاويل يكثر تعدادها، وترجع بجملتها إلى فصول ثلاثة لا رابع لها.
¬__________
(¬1) - المشبهة صنفان: صنف شبهوا ذات الباري بذات غيره، وصنف آخرون شبهوا صفاته بصفات غيره، وكل صنف من هذين الصنفين مفترقون على أصناف شتى.
ومن الصنف الأول: السبئية أتباع عبد الله بن سبأ. (راجع التعريفات لأبي البقاء ص79)، ومنهم البيانية أتباع بيان بن سمعان: الذي زعم أن معبوده إنسان من نور على صورة الإنسان في أعضائه.
ومنهم: المغيرية أتباع المغيرة بن سعيد العجلي: الذي زعم أن معبوده ذو أعضاء.
ومنهم المنصورية: أتباع أبي منصور العجلي: الذي شبه نفسه بربه، وزعم أنه صعد إلى السماء. راجع الفرق بين الفرق ص243، 244.
ومنهم الخطابية: الذين قالوا بإلهية الأئمة وبإلهية أبي الخطاب الأسدي (ت 143ه).
وهذه الأصناف خارجة عن دين الإسلام وإن انتسبوا إليه في الظاهر.
ومن الصنف الثاني: الخابطية: أتباع أحمد بن خابط، وكان يشبه عيسى بن مريم، وزعم أنه الإله الثاني. راجع الفرق بين الفرق 277.
ومنهم الكرامية: أتباع محمد بن كرام: التي ادعت أن الله تعالى جسم له حد ونهاية، وأنه محل الحوادث، وأنه مماس لعرشه: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} (سورة الكهف: 5). راجع اعتقاد فرق المسلمين ص57، والتنبيه 25 و 148، والجور العين ص154، وشرح نهج البلاغة لابن ابن الحديد 2/309، والسفاريني 1/80، والفرق بين الفرق 226، 227.
صفحه ۳
الفصل الأول من ذلك: مقالة أهل التشبيه القائلين بالتجسيم على حقيقة التجسيم.
والثاني: مذهب المجردين للتجسيم بالتسمية دون التشبيه بزعمهم.
والثالث: مقالة المشبهة الغالطين في التأويل، الحائدين عن التسمية بالتجسيم، فهذا اثنا عشر فصلا في أربعة فصول، تحتوي على جميع مذاهب القوم، وتتضمنها إن شاء الله، والله ولي التوفيق.
الرد على المنكرين لحدوث الأشياء:
نبدأ بجواب المنكرين لحدوث الأشياء من هذه الأصناف.
فإن سألنا سائل من أهل الدهر فقال: وما يدريكم بأن هذه الأشياء محدثة؟ ولعلها قديمة لم تزل، قيل له: علمنا حدوثها ذلك من وجوه:
صفحه ۴
أما أحدها: فإنا نظرنا في هذا العالم فوجدناه صنفين لا ثالث لهما: إما جسم، أو عرض صفة له، ثم نظرنا في العرض فإذا هو صفات متضادة، متعاقبة في الجسم، فقلنا: لا تخلو هذه الأشياء من أن تكون قديمة أو محدثة، فبطل أن تكون قديمة، لكونها متعاقبة في الجسم (¬1) آتية وذاهبة، وليس في إتيان الآتي منها أكثر من حدوثه، ولا في ذهاب الذهاب أكثر من بطلانه وفنائه، وبطل أن تكون هذه الأشياء مجتمعة مع تضادها في الجسم بحال واحدة، لبطلان الوصف له بها في حال واحدة، ولو كان الأمر كذلك لجاز أن يسمى الجسم مجتمعا متفرقا، ومتحركا ساكنا، مع سائر تلك الصفات في حال واحدة، فلما بطل الوصف للجسم بهذه الأشياء المتضادة (¬2) في حال واحدة ثبت أن بطلان ما بطل منها لم يبطل إلا بحدوث ضده، وإن ما حدث منها لم يحدث غلا بفناء ضده وبطلانه، فلما كان الأمر هكذا علمنا أن تلك الأشياء بجميعها محدثة كائنة، بعد أن لم تكن، ونظرنا في الجسم فوجدناه لا يخلو من هذه الأشياء المحدثات ولا ينفك عنها، ولا يوجد قبلها ولا بعدها، ولا يوجد إلا وهي معه، ولو أن متوهما توهم الجسم غير مجتمع ولا متفرق ولا متحرك ولا ساكن كان قد توهم ضربا من المحال فاسدا، ووجها من الخطأ مضمحلا؛ لأنه إذا توهم ذلك توهم بطلان وجوده، وفساد كونه، والله ولي التوفيق.
¬__________
(¬1) - الجسم: جوهر بسيط لا تركيب فيه بحسب الخارج أصلا، وهذا عند أفلاطون، فإنه لم يقل إلا بالصورة الجسمية، وأما عند أرسطو فالجسم مركب من حال ومحل، فالحال هو الصورة، والمحل هو الهيولى.
(¬2) - الضدان في اصطلاح المتكلمين: عبارة عما لا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة، وقد يكونان وجوديين كما في السواد والبياض، وقد يكون أحدهما سلبا وعدما، كما في الوجود والعدم، والضدان لا يجتمعان لكن يرتفعان، كالسواد والبياض، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، كالوجود والعدم، والحركة والسكون. المعجم الفلسفي.
صفحه ۵
ثم رجعنا إلى القول في الجسم فقلنا: لما كان الجسم غير عار من هذه الأعراض ولا منفك عنها في حال من أحواله، ولم يوجد (¬1) إلا وهي به، ولا يتقدمها بحال واحدة، ولا يجوز أن يتأخر بعدها حالا واحدة، وهي بجميعها محدثة _كما وصفنا_ قضينا على الجسم بالحدوث، كما (¬2) قضينا على العرض بالحدوث، إذ لم يسبقها ولم يكن قبلها، ولو كان الجسم قبل هذا العرض المحدث موجودا منفكا منه لكان ينبغي أن يكون قديما لوجوده قبل المحدث، فلما بطل عن الجسم أن يوجد قبل هذا العرض المحدث _كما وصفنا_ بطل عنه عند ذلك الوصف بالقدم، وثبت أنه محدث، إذ لم يسبق العرض المحدث، ولم يكن قبله، ولعل قائلا من أهل الدهر يقول: فإذا قضيتم بحدوث هذه الأعراض المتعاقبة في الجسم على حدوث الجسم فينبغي لكم أن تقضوا على أنه قد حدث في أي حال وجدتموه موصوفا بشيء من هذه الأعراض، أو تقضوا على أنه يحدث في كل حال من أحواله، لحدوث الأعراض إليه في كل حال، وهذا ما قد بان في فساده.
¬__________
(¬1) - سقط من (أ) لفظ (يوجد).
(¬2) - سقط من (ب) لفظ (كما).
صفحه ۶
قيل لهم: قد دللنا بحدوث العرض في الجسم على حدوث الجسم، وعلى بطلان قدمه حتما، فلما أن ثبت حدوث الجسم، وبطل عنه أن يكون قديما _لما ذكرنا_ كانت مسألته إيانا في إثبات (¬1) حدوث الجسم، في حين ما شاهدناه لحلول الأعراض فيه، دون حال لم نشاهده فيها مسألة ساقطة، وكذلك قوله: يحدث في كل حال من أحواله لحدوث العرض فيه بكل حال قول فاسد محال، من أجل أن حدوثه في حال يبطل حدوثه في التي تليها وينفيه، كما يبطل حدوثه في الحال التي قبل حال حدوثه، وهذان القولان جميعا ساقطان، وليس في سقوطهما سقوط مقالتنا في نفي القدم عن الجسم، وإثبات الحدوث له، وليس من قال: إن هذا الجسم لا يكون قديما في كل حال، كمن يقول: إن هذا الجسم يحدث في كل حال، فإن قال أيضا: فإذا قضيتم بحدوث العرض المحدث على حدوث الجسم حين لم يسبقه الجسم ولم يتقدمه، ولم يوجد قبله، فكذلك فاقضوا بفناء هذه الأعراض وبطلانها على فناء الجسم وبطلانه، إذ كان الجسم لا يبقى بعدها ولا يتأخر عنها، فإن قلتم بذلك وجب عليكم أن تقولوا باستحالة بقاء الأجسام، وألا تجعلوا منها جسما يجوز عليه أن يبقى أبدا، وإلا بطل دليلكم (¬2) الذي استدللتم به (¬3) من حدوث العرض على حدوث الجسم.
¬__________
(¬1) - سقط من (ب) لفظ (إثبات).
(¬2) - في (ب) بدلا من (دليلكم).
(¬3) - في (ب) بها بدلا من (به).
صفحه ۷
قيل لهم: نعم قد يجوز في الوهم، وليس بمستحيل فيه أن يكون الجسم يفنى عند حال فناء شيء من هذه الأعراض، ويبطل عند بطلانها، ويجوز ألا يفنى، ويبقى إلى حال أخرى غيرها، وأخرى غير تلك الأخرى، أو حال أخرى غير تلك الأخرى، وليس ذلك مما يبطل عنه الفناء، إذ لم تكن شريطة بطلان الفناء على الشيء بقاءه حالا أو حالتين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك، فليس سبيل القدم والحدوث هكذا؛ وذلك أن وصفك للشيء بالقدم ينفي عنه الحدوث في كل حال، ووصفك له (¬1) بالبقاء لا ينفي عنه الفناء في كل حال، فبالجملة إنك متى ما ذكرت شيئا بأن يبقى بعد الحدوث، ولم تنف عنه أن يكون يفنى، ومتى ما وصفته بالقدم فقد أحلت عنه أن يكون يحدث أبدا.
ومن الدلالة على حدوث الأشياء أنا نظرنا إلى أدنى (¬2) حركات الأجسام إلينا وحركات الفلك فوجدناها آخر ما مضى منها، فعلمنا عند ذلك أن لجميع ما مضى منها أولا، كما كان له آخر، فلما ثبت أن لجميع ما مضى منها أولا، علمنا أنها جميعا محدثة كائنة بعد إذ (¬3) لم تكن، وبطل بذلك قول من زعم أنها لم تزل.
¬__________
(¬1) - البقاء: هو سلب العدم اللاحق للوجود، أو استمرار الوجود في المستقبل إلى غير نهاية، وهما بمعنى كما في شرح "الإرشاد" وهو أعم من الدوام.
والدائم الباقي: هو الله تعالى بافتقار الموجودات إلى مريم، كافتقار المعدومات إلى موجد.
والباقي تعالى هو باق لذاته، خلافا للأشعري فإنه عنده هو ببقاء قائم بذاته.
والباقي بنفسه لا إلى مدة هو الباري، وما عداه باق بغيره، وباق بشخصه إلى أن يشاء الله أن يفنيه، كالأجرام السماوية، والباقي بنوعه وجنسه دون شخصه وجزئه كالإنسان والحيوانات، والباقي بشخصه في الآخرة كأهل الجنة، وبنوعه وجنسه هو ثمار أهل الجنة كما في الحديث، وكل عبادة يقصد بها وجه الله فهي الباقيات الصالحات. راجع التعريفات للجرجاني.
(¬2) - سقط من (ب) لفظ (أدنى).
(¬3) - في (أ) أن بدلا من (إذ).
صفحه ۸
وقد تكلم قوم من أهل التوحيد فقالوا: إن قول أهل الدهر لم تزل الأشياء تحدث قول محال فاسد متناقض؛ لأن قولهم لم تزل يبطل الحدوث، وقولهم: تحدث يبطل لم تزل، والقول إذا كان فيه (¬1) إثبات شيء، وفيه صار باطلا فاسدا متناقضا، وقد ضرب قوم من أهل التوحيد مثلا لقول أهل الدهر حين قالوا: إن هذه الأشياء التي تحدث شيئا بعد شيء، وشيئا قبل شيء، وأنه لا يقع شيء منها، ولا يحدث إلا وقبله شيء آخر فقالوا: إن مثل قول (¬2) أهل الدهر في ذلك كمثل من قال: إن زيدا لا يدخل هذا الدار حتى يدخل قبلها (¬3) دارا غيرها، ولا يدخل تلك الغير حتى يدخل قبلها غيرها، ولا يدخل الثالثة حتى يدخل قبلها الرابعة، ولا يدخل الرابعة حتى يدخل الخامسة قبلها، إلى ما لا ينتهي، فقالوا: إنه يبطل ويفسد أن يدخل شيئا من هذه الدور أبدا، (¬4)
¬__________
(¬1) - سقط من (ب) لفظ (فيه).
(¬2) - في (أ) بزيادة لفظ (قول).
(¬3) - سقط من (ب) لفظ (قبلها).
(¬4) - الأبد: لا يثنى ولا يجمع، والآباد مولد الآبدين، وأبد الآبدين معناه: دهر الداهرين وعصر الباقين، أي يبقى ما بقي دهر وداهر.
وآخر الأبد: كناية عن المبالغة في التأبيد، والمعنى: الأبد الذي هو آخر الأوقات. راجع كليات أبي البقاء.
صفحه ۹
إذا كان دخول شيء منها مشروطا معلقا بدخول غيره، وذلك الغير مشروطا معلقا بدخول غيره، وذلك الغير مشروطا معلقا بغير آخر إلى ما لا يتناهى، لكن وقوع شيء مشروط بوقوع غيره قبله إلى ما لا يتناهى بطلان وقوع شيء منها، فلو استثنينا واحدا من هذه الأشياء من هذا الشرط لكان غير مستحيل وقوع ما بعده وحدوثه، والقول في العدد أيضا كالقول فيما ذكرنا؛ وذلك أن العدد لا يقع إلا وله أول يبتدأ منه، ولولا أنه كان له أول يتبدئ منه لم يجب وقوع شيء منه أبدا، فإذا كان له أول يبتدئ منه ثبت وقوع شيء مما بعده، ولعل قائلا منهم يقول: إن هذه الأشياء التي استدللتم بحدوثها على حدوث الجسم كانت كامنة في الجسم تظهر في حال، وتكمن في حال، وهي مع ذلك قديمة بقدم الجسم ، فيقال له: كيف يجوز أن يكمن السكون في موضع هو متحرك، أو تكمن الحركة (¬1)
¬__________
(¬1) - الحركة: هي عبارة عن كون الجسم في مكان عقيب كونه في مكان آخر، وقيل: الحركة كونان في آنين في مكانين.
والمتكلمون إذا أطلقوا الحركة وأرادوا بها الحركة الأينية المسماة بالنقلة، وهي المتبادرة في استعمال اللغة، وقد تطلق عندهم على الوضعية دون الكمية والكيفية.
والحركة لا تقع وصفا بالذات إلا للمتحيز بالذات، والحركة أعم من النقلة لوجود الحركة بدونها فيمن يدور في مكانه.
والحركة الكمية كحركة النمو: وهو أن يزداد مقدار الجسم في الطول والعرض والعمق، وذهب الرازي إلى أن النمو والذبول ليسا من الحركة، وكلام الشريف يميل إليه، والحركة الكيفية المحسوسة كحركة الماء من البرودة إلى السخونة، والحركة الكيفية النفسانية: كحركة النفس في المعقولات، فتسمى فكرا، كما أنها من المحسوسات تسمى تخيلا.
والحركة الوضعية: كحركة الجسم من وضع إلى وضع آخر، ككون القاعد قائما، وكحركة الفلك في مكانه على الاستدارة.
والحركة الأينية: كحركة الجسم من مكان إلى مكان آخر، راجع المعجم الفلسفي.
صفحه ۱۰
في موضع هو ساكن، أو يكمن الافتراق في جزءين مجتمعين، أو يكمن الاجتماع في جزءين مفترقين، وهل يكون ذلك إلا وقد حل الشيء ومضاده (¬1) في محل واحد، في حالة واحدة، فهذا يوجب المعنى الأول الذي أنبأنا على فساده في ماضي كلامنا في إثبات الجسم ساكنا متحركا في حال واحدة، مجتمعا متفرقا في حال واحدة، وعلى أنه لو لم يجب ذلك، وكان ما زعم هذا الزاعم من كمون هذه الأعراض صحيحا لكان الكلام قائما والسؤال لازما، من قبل أن هيئة الجسم في حال كمون الكامن فيه، بخلاف هيئته في حال ظهوره فيه، وإذا اختلفت هيئته بالظهور والكمون (¬2)
¬__________
(¬1) - الضد والضديد واحد، والأضداد، وقد يكون الضد جماعة قال الله تعالى: {ويكونون عليهم ضدا} (سورة مريم:82)، وقد ضاده مضادة وهما متضادان، ولا ضديد له: أي لا نظير له ولا كفء له. راجع التعريفات للجرجاني.
(¬2) - الكمون: فإن طائفة ذهبت إلى أن النار كامنة في الحجر، وذهبت طائفة إلى أبطال هذا وقالت: إنه لا نار في الحجر أصلا. وهو قول ضرار بن عمرو.
وضرار ينسب إلى مخالفيه أنهم يقولون: إن النخلة بطولها وعرضها وعظمها كامنة في النواة، وأن الإنسان بطوله وعرضه، وعمقه وعظمه كامن في المني.
وخصومه ينسبون إليه أنه يقول: إنه ليس في النار حر، ولا في العنب عصير، ولا في الزيتون زيت، ولا في الإنسان دم. ويقول ابن حزم: وكلا القولين جنون ومكابرة للحواس والعقول، والحق من ذلك: أن في الأشياء ما هو كامن كالدم في الإنسان، والعصير في العنب.
وذهب الباقلاني وسائر الأشعرية: إلى أنه ليس في النار حر، ولا في الثلج برد، ولا في الزيتون زيت.
يقول ابن حزم: وهذا أمر ناظرنا عليه من لقيناه منهم. راجع الفصل 5/185 وما بعدها.
صفحه ۱۱
فقد تضاد عليه أمران يوجد كل واحد منهما بعدم صاحبه، ويعدم بوجوده، فقد صار الجسم بذلك لا يخلو من هذين الحادثين ولا ينفك منهما، فذلك يوجب حدوثه إذا كان ما لم يسبق الحادث فهو حادث مثله، فقد عاد الأمر الذي هربوا منه بحاله في الدلالة على حدوث الأجسام، وقد كان بعض أهل العلم من المتقدمين سألهم في هذا الباب عن مسألة فقال لهم: أخبروني عن شيخ رأيتموه قاعدا بحضرتكم ذا شيبة، تزعمون أنه لم يزل على ما شاهدتموه عليه في تلك الحال، أم قد كان طفلا، ثم نشأ ثم شب، ثم شاخ؟ فإن قالوا: لم يزل على ما شاهدناه عليه من هذه الهيئة ظهر أمرهم لكل ضعيف وقوي، وعلم كل عاقل أنهم يدفعون ما يعلمونه ضرورة، فإن قالوا: قد كان طفلا، ثم ناشئا، ثم شابا، ثم شيخا على هذه الهيئة، فيقال لهم (¬1) أفحدث شيء قد كان به كبيرا بعد أن كان صغيرا، أو شيخا بعد أن كان شابا؟ فإن قالوا: لا، قيل (¬2) لهم: فهو إذا على ما كان وهو شاب وطفل، وهذا يشهد بفساده العيان والمشاهدة. فإن قالوا: وإن لم يحدث شيء فقد ظهر شيء كامن له صار به شيخا بعد أن كان شابا، قيل لهم : فاحسبوا الأمر على ما تقولون من ظهور شيء كامن صار به شيخا بعد أن كان شابا. أفحدث ظهور بعد كمون، أو لم يحدث ظهور بعد كمون؟ عاد الكلام الأول، وقال لهم: فهو إذا على ما كان قبل ظهور الكامن، وإلا فلم صار شيخا بعد أن كان شابا؟ فإن قالوا: حدث شيء لم يكن له صار به شيخا بعد أن كان شابا أقروا بحدوث (¬3)
¬__________
(¬1) - سقط من (ب) لفظ (لهم).
(¬2) - سقط من (ب) لفظ (لهم).
(¬3) - الحدوث: الخروج من العدم إلى الوجود، أو كون الوجود مسبوقا بالعدم اللازم للوجود، أو كون الوجود خارجا من العدم اللازم للموجود.
وأظهر التعريفات للحدوث: هو أنه حصول الشيء بعدما لم يكن، وقول المتكلمين: هو الخروج من العدم إلى الوجود فهو تعريف مجازي، إذ العدم ليس بظرف للمعدوم ولا حقيقة فيه. والحدوث الذاتي عند الحكماء: هو ما يحتاج وجوده إلى الغير، فالعالم بجميع أجزائه محدث بالحدوث الذاتي عندهم، كما أن القدم الذاتي: هو أن يكون وجوده من الغير، وهو الباري جل شأنه. والقدم المطلق: هو أن يكون وجوده مسبوقا بالعدم.
وأما الحدوث الزماني: فهو ما سبق العدم على وجوده سبقا زمانيا.
صفحه ۱۲
الحدث، ودخلوا في جميع ما هربوا منه، والذي يلزم النافين للأعراض والمنكرين للحوادث أمور كثيرة، لو استقصيناها لخرج الكتاب عن اسمه، ولذهب عن معناه، والذي ذكرنا من ذلك في هذا الموضع كاف عما لم نذكره إن شاء الله، إذ لم يكن غرضنا ها هنا، إقامة الدليل على ثبوت الأعراض، والرد على النافين لها، وإنما ذكرنا هذه اللمع لنستشهد بها على حدوث الجسم وبطلان قدمه، والله الموفق للصواب.
صفحه ۱۳
... فإن سأل سائل فقال: قد دللتم على حدوث الأشياء لا من شيء، فهل تقولون إن لها محدثا أحدثها؟ ولعل هذه الأشياء حدثت لغير محدث، ولعلها حدثت (¬1) من تلقائها، وما دلكم على حاجتها إلى محدث يحدثها؟ قيل له: لا تخلو هذه الأشياء من وجهين لا ثالث لهما: إما أن تكون حدثت بمحدث أحدثها، أو حدثت من تلقائها بلا محدث، وبطل أن تكون تحدث من تلقاء نفسها؛ لأنها لو كانت كذلك لحدثت قبل وقت حدوثها أو بعده، ولكان المتقدم منها متأخرا، والمتأخر متقدما، والمتوسط متقدما أو متأخرا، أو متقدمة جميعا، أو متأخرة جميعا، فلما أن وجدناها حدثت في وقت حدوثها، دون ما قبل ذلك الوقت، ودون ما بعده، ووجدنا المتقدم منها متقدما، والمتوسط متوسطا، والمتأخر متأخرا علمنا أن ذلك لم يكن إلا بإرادة محدث أحدثها، فقدم منها ما أراد أن يقدمه، ووسط ما أراد أن يوسطه، وأخر ما أراد أن يؤخره، وبطل عندما ذكرنا القول بأن الأشياء حدثت من تلقاء نفسها بغير محدث، وثبت القول الثاني بأن الأشياء محتاجة إلى محدث يحدثها في أوقات حدوثها، يقدم ما أراد تقديمه منها، ويؤخر ما أراد تأخيره. فإن قال: وما يدريكم لعل هذه الأشياء أحدثت أنفسها (¬2)
¬__________
(¬1) - سقط من (ب) لفظ (حدثت).
(¬2) - يقول الشيخ نديم الجسر: هناك ثلاثة فروض لا رابع لها أبدا الأول: أن تكون من صنع الله، الثاني: أن تكون من صنع ذي المادة، الثالث: أن تكون هذه التنوعات حدثت بطريق المصادفة. أما الفرض الأول: فيقول به المؤمنون بالله، وأما الفرض الثاني فلا يقول به أحدا مطلقا لا المؤمنون ولا الماديون، بل إن هؤلاء الماديين أنكروا إنكارا قاطعا أن يكون لعناصر المادة إرادة وقصد وغاية.
إذا قد أصبحنا أمام فرضين لا ثالث لهما: فإما أن تكون تنوعات العالم من خلق الله وصنعه، وإما أن تكون نتيجة للمصادفة.
ونظرة في ملكوت السماوات والأرض من الذرة إلى المجرة، وعدد ما يربط بينها في عالم الأمر من روابط وعلائق على اختلاف النواميس والأقدار، والمدد والأشكال، والحركات والأوضاع، ثم ما في هذا الكون الكبير من تقدير، واتزان وتنظيم، وترتيب وإحكام، وإتقان تنفي نفيا قاطعا أن يكون للصدفة مكان في هذا الخلق العجيب.
قال تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} (سورة القمر: 49)، وقال تعالى: {وكل شيء عنده بمقدار} (سورة الرعد: 8)، وقال تعالى: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} (سورة النمل:88)، وقال تعالى: {والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون} (سورة الحجر: 8)، إلى غير ذلك من الآيات البينات التي تنفي نفيا قاطعا أن تكون هذه الأشياء أحدثت نفسها أو حدثت عن طريق العفوية والمصادفة. راجع قصة الإيمان للشيخ نديم الجسر، باب حظ المصادفة 295 297 بتصرف.
صفحه ۱۴
ولعل المحدث لها هي بأنفسها؟ قيل له: لا تخلو هذه الأشياء بعدما ثبت حدوثها وثبت أن لها محدثا أحدثها، وأنها غير مستغنية عن ذلك من وجهين لا ثالث لها: إما أن تكون أحدثت نفسها، أو أن تكون أحدثها غيرها، ويبطل أن تكون أحدثت نفسها من قبل؛ لأنها لا تخلو في حال حدوثها من أن تكون معدومة أو موجودة، فإن كانت معدومة فالمعدوم (¬1) لا يحدث شيئا: نفسه ولا غيره، فإن تكن موجودة فما حاجتها إلى أن توجد نفسها وهي موجودة بعد؟ فلما فسد هذان الوجهان ثبت أن لها محدثا أحدثها، وهو غيرها موجود قبل إيجاده لها، ذلكم الله رب العالمين.
إثبات الوحدانية:
¬__________
(¬1) - العدم: الفقد، وضد الوجود [وهو عبارة عن لا وجود، ولا وجود نفي للوجود] والعدم المطلق: هو الذي لا يضاف إلى شيء، والمقيد: ما يضاف إلى شيء نحو: عدم كذا، والعدم السابق: هو المتقدم على وجود الممكن، والعدم اللاحق: هو الذي بعد وجوده، والعدم المحض: هو الذي لا يوصف بكونه قديما، ولا حادثا ولا شاهدا، ولا غائبا.
والعدم المطلق: بمعنى لا يتحقق لا ذهنا ولا خارجا. راجع شرح المقاصد، فصل الوجود والعدم 1/327 وما بعدها.
صفحه ۱۵
... فإن قال: وما يدريكم أن محدث هذه الأشياء واحد؟ ولعل محدثها اثنان أو أكثر من ذلك، قيل له: لا يخلو محدث الأشياء بعدما ثبت أنه غيرها من وجهين لا ثالث لهما: إما أن يكون واحدا كما قلنا، أو أكثر من واحد، ويبطل أن يكون أكثر من واحد من قبل، أنه لا يخلو أن يكون جميعا موصوفين بصفة واحدة متفقة، أو يكون كل واحد منهما موصوفا بصفة غير صفة صاحبه، فإنا كانا جميعا موصوفين بصفة واحدة متفقة فهذا معنى الواحد، وليس لذكر الاثنين أو أكثر من اثنين وجه، وإنما ذلك عبارة بلفظ الاثنين عن معنى الواحد، أو يكون كل واحد منهما موصوفا بغير صفة صاحبه، فالخارج منهما عن صفة القديم المحدث للأشياء غير مستحق أن يحدث شيئا، فلما بطل عن هذا أن يكون يحدث شيئا ثبت أن محدث الأشياء هو الموصوف بصفة القديم الخارج عن صفة المحدث.
لقد تكلم قوم من أهل التوحيد في هذا الباب بكلام قريب من هذا المعنى فقالوا: لا يخلو الاثنان من وجهين: إما أن يكونا متفقين أو مختلفين، فإن يكونا متفقين؛ فهو الذي قلنا من إثبات الواحد، وإن كانا مختلفين؛ فالمخالف منهما لصفة الربوبية غير مستحق لأن يحدث شيئا، وثبت أن إحداث الأشياء لواحد قديم ذلك الله رب العالمين.
وقالوا أيضا في فساد القول بالاثنين (¬1) ،
¬__________
(¬1) - وقال الله تعالى: {لا تتخذوا إلهين اثنين، إنما هو إله واحد فإياي فارهبون} (سورة النحل:51)، لقد أمر الله ألا يتخذ إلهين اثنين، إنما هو إله واحد لا ثاني له، وهو كذلك مالك واحد {وله ما في السماوات والأرض} (سورة النحل:52)، (وله الدين واصبا) (سورة النحل:52)، أي واصلا منذ ما وجد الدين، فلا دين إلا دينه، ومنعم واحد {وما بكم من نعمة فمن الله} (سورة النحل:53).
وهكذا ينفرد سبحانه وتعالى بالألوهية، والملك، والدين، والنعمة والتوجه.
صفحه ۱۶
أو أكثر من الاثنين: لا يخلو كل واحد منهما من أن يكون قادرا على صاحبه، أو غير قادر عليه، فإن كان كل واحد منهما قادرا على صاحبه، فهذا معنى الواحد، وإن كان كل واحد منهما غير قادر على صاحبه كانا موصوفين بالعجز، فكيف يكون العاجز مستحقا لإحداث شيء من الأشياء؟ وقالوا أيضا في فساد القول بالاثنين: لا يخلو كل واحد منهما من أن يكون يقدر على أن يفني صاحبه، فهذا هو الوصف بالواحد، وليس لذكر الاثنين مع هذه الصفة وجه، أو يكون كل واحد منهما لا يقدر على أن يفني صاحبه، فيكونا جميعا قد دخلا في باب العجز؛ فالداخل في باب العجز غير مستحق أن يحدث شيئا.
وقالوا أيضا في فساد القول بالاثنين: لا يخلو كل واحد منهما من أن يكون يخفي عن صاحبه أمرا، أو لا يخفيه، فإن كان كل واحد منهما يخفي عن صاحبه أمرا ويستره دونه، فقد دارت القصة من حيث ما دارت إلى أن يكون الاثنان الموصوفان بصفة واحدة في معنى الواحد، وبطل ذكر الاثنين واللفظ بهما، أو يكون كل واحد منهما لا يخفي دونه صاحبه أمرا، كانا جميعا موصوفين بالجهل والعجز، وفي صفة إياهما بذلك ما يخرجهما من حد إحداث الأشياء، والتدبير لها، فلما ثبت القول بما قلنا من هذا، وفسد القول بغير ذلك مما رسمناه في كلامنا هذا صح أن محدث الأشياء واحد لا اثنان، ولا أكثر من ذلك، وربنا محمود.
دفع التشبيه (¬1)
¬__________
(¬1) - نشأ مبدأ التشبيه من مذاهب الحلولية والتناسخية، ومن مذاهب اليهود والنصارى، فقد شبهت اليهود الخالق بالخلق، وشبهت النصارى الخالق بالخلق، وسرت هذه الشبهات في أذهان الغلاة.
وقد اعتمد الغلاة التشبيه لهدم مبدأ الألوهية؛ لأن التشبيه يجعل المشبه والمشبه به على مستوى واحد، وعلى مستويات متقاربة، ونتسائل: كيف يتصور الشبه بين القديم والمحدث؟ ومن زعم أن الباري سبحانه في مكان، أو على مكان، أو متصل بمكان، أو يتصور على الضمير أو يتخايل في الأوهام، أو يدخل تحت الصفة أو النعت فقد أشرك. راجع الغلو والفرق الغالية ص146.
صفحه ۱۷
فإن قال: وما يدريكم بأن محدث هذه الأشياء غير مشبه لها؟ لعله مشبه لهذه الأشياء أو مشبه لبعضها، قيل له: لا يخلو المحدث للأشياء من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن يكون مشبها لها أو غير مشبه لها، وبطل القول بأنه يشبهها من قبل أنه لو أشبهها للزمه من الحدوث ما لزمها، ونحن قد دللنا فيما قبل على حدوثها، ولو لزمه من الحدوث ما لزمها لكان هو أيضا محتاجا إلى محدث ثان يحدثه، ولكان ذلك المحدث الثاني محتاجا هو أيضا إلى محدث ثالث، والقول في الثالث كالقول في الثاني، والقول في الرابع كالقول في الثالث، فيكون الأمر متسلسلا إلى ما لا نهاية له من الفساد، فلما فسد القول بهذا ثبت أن محدث الأشياء غير مشبه لها، ولا مشبه لبعضها في وجه من وجوه الإشباه؛ وذلك أن هذه الأشياء دالة بجميع وجوهها على عجزها وحاجتها وحدوثها، فلو كان الذي أحدثها مشبها لها، أو مشبها لشيء منها بوجه من هذه الوجوه للزمه مما ذكرنا ما لزم ذلك الشيء، يتعالى عن ذلك رب العالمين.
انتهى الكلام في حدوث الأشياء، والدلالة على بطلان قدمها، وإثبات المحدث أنه واحد، وأنه غير مشبه للأشياء، بما هو مقنع إن شاء الله، والله ولي التوفيق.
النقض على الدهرية (¬1) :
¬__________
(¬1) - الدهرية: هم فرقة خالفت ملة الإسلام، وادعت قدم الدهر، وأسندت الحوادث إليه، كما حد القرآن الكريم عنهم {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} (سورة الجاثية:24). وذهبوا أيضا إلى ترك العبادات لزعمهم أنها لا تفيد.
والدهر بما يقتضيه مجبول من حيث الفطرة على ما هو عليه، فما ثم إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وسماء تقلع، وسحاب يقشع، وهواء يقمع، ويسمون بالملاحدة. ويمكن رد أصل الدهرية إلى مدارس الفلسفة الإغريقية. ويفرق الإمام الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال" بين الدهرية والطبيعيين.
وتقول دائرة المعارف الإسلامية: تقدم علماء المشرق تقدما كبيرا نحو الدهرية عندما تغلغل بينهم العلم الطبيعي الأوروبي كمذهب "داروين" ومذهب المادية، وغير ذلك، وقد رد على الدهرية (جمال الدين الأفغاني) في رسالته بعنوان (رسالة في إبطال مذهب الدهريين)، ويتضح من ذلك إذن أن المادية مرادفة للدهرية، ويجيز فقهاء اللغة أيضا النطق بكلمة (الدهرية) بضم الدال عملا بقاعدة تغير الحركة، وهو أمر مألوف في النسبة.
راجع:
1 دائرة المعارف للبستاني مجلد 8، مؤسسة مطبوعاتي إسماعيليان.
2 مفاتيح العلوم لطاش كبرى زادة، ط فان فلتن، ص 35.
3 الملل والنحل للشهرستاني.
4 الحيوان للجاحظ ج2 ص50.
5 دائرة المعارف الإسلامية بتصرف ج9 ص338، 339، 340.
صفحه ۱۸
... ونحن الآن مبتدئون سؤالنا عن أهل الدهر، وناقضون عليهم في كل ما ذهبوا إليه، ولا قوة إلا بالله.
... اعلم _أيدك_ الله أن الدهرية جميعا متفقون على قدم العالم، وإبطال حدوثه، واختلافهم بعد ذلك في وجوه تصرف العالم في ذاته على ما سنذكره إن شاء الله.
... يقال لهم جميعا: ما الذي دعاكم إلى القول بقدم العالم؟ قالوا: لأنا وجدناه من حين ما وجدناه هكذا، متصلا بعضه ببعض، ليس لاتصاله أول، فقضينا بما شاهدنا من ذلك على ما كان قبله مما لم نشاهده، لصحة الاستدلال بالشاهد على الغائب، وبالبعض على الكل، ويقال لهم: أو قد شاهدتم هذا العالم أو شيئا منه، قديما لم يحدث؟ فإن قالوا: نعم بان كذبهم؛ لأنهم لم يكونوا قدماء فيكونوا مشاهدين لقدم ما ادعوا قدمه من ذلك، مع أنه لو شوهد ذلك بالعيان كما قالوا لما اختلف فيه اثنان، فإن رجعوا وقالوا: لما شاهدناه متصلا لا غاية لاتصاله، قضينا بذلك على أن لا غاية له. قيل لهم: وما في اتصال بعضه ببعض ما يفسد حدوثه، ونحن إنما سألناكم عن الدليل (¬1)
¬__________
(¬1) - الدليل: المرشد إلى المطلوب يذكر ويراد به الدال، ثم اسم الدليل يقع على كل ما يعرف به المدلول، حسيا كان أو شرعيا أو قطعيا، حتى سمي الحس، والعقل، والنص، والقياس، وخبر الواحد، وظواهر النصوص كلها أدلة.
والدليل عند الأصولي: هو ما يمكن التوصل به بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري.
ودلائل الشرع خمسة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. والعقليات المحضة كالتلازم والتفاني والدوران، والثلاثة الأول نقلية، والباقيان عقليان.
ولا يخلو الدليل من أن يكون على طريق الانتقال من الكلي إلى الكلي، فيسمى برهانا، أو من الكلي إلى البعض فيسمى استقراء، أو من البعض إلى البعض فيسمى تمثيلا. راجع التعريفات للجرجاني ص93.
صفحه ۱۹
فجعلتم دعواكم دليلكم، بل لو رجعتم إلى ما شاهدتم من ذلك لعلمتم أن هذا العالم غير قديم، ولقضيتم عليه بالحدوث؛ لأنكم لم تزالوا من حين ما شاهدتموه ترون فيه جائيا حادثا، وذاهبا فانيا، وهل نفس الحدوث إلا وجود الشيء بعد عدمه؟ أو هل نفس الفناء إلا بطلان الشيء بعد وجوده؟ فإن قالوا: إنه يستحيل في أوهامنا أن يحدث شيء من غير شيء، قيل لهم: وكيف يستحيل في أوهامكم أن يحدث شيء لا من شيء، ولم يستحل أن يوجد شيء لم يكن قبل وجوده؟ أم كيف يستحل ما ذكرتم من حدوث شيء من غير شيء، ولا يستحيل فناؤه إلى غير شيء؟ فلما أن وجدنا شيئا أو أشياء تفنى إلى غير شيء، ولو لم يتصور ذلك في أوهامنا علمنا أنها تحدث من غير شيء، ولو لم يتصور حدوثها في أوهامنا، وقد مضى القول في حدوث العالم، والدلالة على ذلك في أول كتابنا بما هو مقنع إن شاء الله، وبه الحول والتوفيق.
الرد على المنجمين (¬1) :
¬__________
(¬1) - إن النجوم أجسام وصور مركبات تحركها القدرة، وما كان هذا سبيله كان محدثا، والمحدث لا يكون محدثا للحوادث. والدليل على أن النجوم حادثة: انتقالها من برج إلى برج، فإن صح أن النجوم محدثات لم يجز أن يكون لها أفعال؛ لأن المحدث لا يفعل في غيره شيئا، ولا يوجد عدما، ولا يعدم وجودا، فبطل أن يكون للنجوم تأثير في إيجاد ما يوجد، وإعدام ما يعدم. وإذا كان هذا حال النجوم فإن حال المنجمين كذلك، والله أعلم. راجع كتاب النور ص36. بتصرف للعالم الفقيه بن أبي عبد الله الأصم.
صفحه ۲۰