محاورات ألفرد نورث وايتهيد
محاورات ألفرد نورث هوايتهد
ژانرها
لقد شهد هوايتهد في مواضع كثيرة بما هو مدين به في حياته الفكرية لمحاوراته مع أصدقائه؛ فمما قاله في ذلك أن الشطر الأعظم من نموه العقلي قد جاءه من جيد الحديث، وكثيرا ما أسعفه الحظ في أن يهيئ له المحدث الممتاز، وكذلك يقول في موضع آخر بأنه يؤمن إيمانا شديدا بقيمة المحاورة والمحادثة في التثقيف، حتى ليعترف بأن ما كسبه منها لا يقل عما كسبه من الكتب، وفي هذا الكتاب الذي نقدمه للقراء صورة لهذا المحدث البارع في حديثه المنساب، في بيته وبين أصدقائه. •••
ولد ألفرد نورث هوايتهد في الخامس عشر من فبراير عام 1861م، في مدينة رامزجيت من مقاطعة كنت في إنجلترا، من أسرة اشتغل معظم أفرادها بأعمال تتصل بالتربية وبالكنيسة وبالإدارة المحلية، فكان جده ناظرا لمدرسة خاصة في رامزجيت، ثم جاء أبوه فخلف جده في منصبه ذاك، غير أن أباه قد تحول فيما بعد إلى المناصب الكنسية. ويقول ألفرد هوايتهد عن أبيه إنه لم يكن عميق الثقافة بقدر ما كان قوي الشخصية، فكان كبير الأساقفة في وقته قد صادقه صداقة جعلته ينفق معه ساعات طويلة إبان أشهر الصيف التي كان يقضيها في منطقة هوايتهد الوالد، وكانا يتحدثان أحاديث طويلة تمثل - كما يقول ألفرد هوايتهد - القرن الثامن عشر في أنصع جوانبه، وقد أخذت ثقافة ذلك القرن عندئذ تختفي رويدا رويدا لتحل محلها ثقافة القرن التالي - القرن التاسع عشر - وكان الغلام يستمع إلى تلك الأحاديث، فكان بهذا يشهد - كما يقول - تاريخ إنجلترا نابضا حيا في أشخاص جده وأبيه وأصدقائهما، وكان يشهد تاريخ بلاده حيا في هؤلاء الرجال بوعيه الباطن لا بعقله الظاهر، حتى لقد وجد نفسه في أيام نضجه يفهم ثقافة بلاده عن طريق ما كان قد سمعه ورآه في هؤلاء الرجال.
وكذلك شهد في صباه تاريخ بلاده قائما في آثار كثيرة تحيط بمسقط رأسه رامزجيت، فعلى بعد ستة عشر ميلا تقع كاتدرائية كانتربري بجلالها وبما تحوي من ذكريات التاريخ، وفي جوار بلده تقوم قلعة رتشبره التي بناها الرومان، وهنالك ترى شاطئ البحر في نفس الموضع الذي نزل فيه السكسون، والذي نزل فيه أوغسطين، وعلى مسافة ميل واحد تقع كنيسة الدير محتفظة بلمسات من العمارة الرومانية، لكن تغلب عليها العمارة النورمندية، وها هنا ألقى القديس أوغسطين أولى مواعظه الدينية (كان البابا جريجوري الكبير قد أوفد القديس أوغسطين للتبشير بالمسيحية في بريطانيا)، وهكذا كان الصبي يتنفس في بيئته الأولى أنفاسا تفوح بعطر الماضي التليد، حتى لقد كان يضيق صدرا - لما كبر - بملاعب «الجولف» في ذلك المكان؛ لأنه كان يرى تلك الملاعب نهاية رخيصة لقصة مجيدة.
وجاءت تربية هوايتهد كلاسية الطابع على غرار ما كان سائدا في القرن التاسع عشر؛ فقد بدأ اللاتينية وهو في العاشرة، وبدأ اليونانية وهو في الثانية عشرة، فلو استثنيت أيام العطلة الدراسية، ألفيت فتانا لا يفوت يوما واحدا - حتى انتصف العام العشرون من عمره - دون أن يقرأ بضع صفحات من تراث اللاتين واليونان، يقرؤها قراءة الدارس المتفحص نحوا وصرفا ومعنى، وعن طريق دراسته لتلك النصوص صاحب رجال الفكر الأقدمين مصاحبة تركت في نفسه أثرها إلى آخر حياته الفكرية.
وتخلل دراسته الكلاسية دروس الرياضة، حتى لقد أعفي في المدرسة من بعض الدراسات القديمة لينفق في الرياضة وقتا أطول؛ وذلك لما أبداه من استعداد واضح في هذا الاتجاه، انتهى به إلى أن يجعل الرياضة موضوع تخصصه وهو في الجامعة، على أنه لم يكتف في دراسته الثانوية بما كانت تقتضيه الواجبات الرسمية، بل رأى نفسه مشغوفا بالشعر، فراح يقرأ للشعراء في أوقات فراغه، لا سيما «وردزورث» و«شلي».
ودخل جامعة كمبردج في خريف 1880م، وهو يعترف بما هو مدين به لهذه الجامعة في تكوينه الثقافي اعترافا يقول فيه إنه لا سبيل إلى الإسراف في وصف ذلك الدين، الذي لم يرجع فقط لما تلقاه في قاعات الدرس، بل جاوز تلك القاعات إلى ما كان هناك من تدريب اجتماعي وعقلي معا؛ فأما قاعات الدرس فكان التعليم فيها يلتزم نطاق التخصص في أضيق حدوده، وكانت الرياضة مادة تخصصه، فدرسها على أساتذة أكفاء حتى ألم بجانبيها، البحت والتطبيقي، لكنه لم يستمع إلى درس واحد - خلال سنوات الجامعة الأربع - فيما لا يمس الرياضة مسا مباشرا، لكن المحاضرات لم تكن في جامعة كمبردج إلا جانبا واحدا من تربية الطالب، فكان هناك مصدر آخر بالغ الخصوبة بعيد الأثر في تكوين أبناء الجامعة، ألا وهو حلقات النقاش التي لم تنقطع بين الطلاب والأساتذة؛ ففي كل مساء كان العشاء يقدم للطلاب في نحو السادسة أو السابعة، وبعد الفراغ منه، يتحلق الطلاب بعضهم مع بعض، أو مع من شاءوا من أساتذتهم، حلقات، حلقات، يناقشون فيها ما طاب لهم أن يناقشوه حتى ساعة متأخرة من الليل.
لم تكن جماعات الأصدقاء تربطها وحدة التخصص في الدراسة؛ إذ كانت الموضوعات التي تناقش في اجتماعاتهم الخاصة تتناول كل شيء، السياسة والدين والفلسفة والأدب، فكان هذا التنوع حافزا على تنوع القراءة. ويسوق لنا هوايتهد نفسه في ذلك مثلا، فيقول إنه وهو المتخصص في الرياضة كاد يحفظ أجزاء من كتاب «نقد العقل الخالص» لكانط عن ظهر قلب، ويضيف إلى ذلك قوله: «لقد نسيته الآن؛ لأن سحر كانط قد زال عني وشيكا، وأما هيجل فلم أستطع قط قراءته، فقد بدأت دراسته بالنظر في ملاحظاته التي أبداها عن الرياضة، فأدهشني أن أجدها كلها هراء في هراء.»
ويمضي هوايتهد وهو يروي عن قصة حياته في إيجاز مختصر (راجع كتابه: مقالات في العلم والفلسفة) فيقول: «إنني إذ أرجع ببصري أكثر من نصف قرن [كتب هذا سنة 1941م] أرى تلك الأحاديث التي كانت تدور بيننا ونحن في كمبردج قريبة الشبه بالمحاورات الأفلاطونية ... وهكذا كانت تعلم كمبردج أبناءها، فهي تجري على المنهج الأفلاطوني ... إن أفلاطون لو شهدنا في كمبردج نمزج بين تخصص في الرياضة ومناقشات حرة تدور بين الأصدقاء لأبدى رضاه.»
فرغ هوايتهد من دراسته الجامعية سنة 1885م، فعين في نفس الجامعة مدرسا، حتى كان عام 1910م استقال من منصبه ذاك لينتقل إلى لندن.
وفي ديسمبر من عام 1890م تزوج فيلسوفنا من زوجته التي تراها بارزة الأثر في المحاورات التي نقدمها إليك اليوم، وعنها يقول: «إن أثر زوجتي في تشكيل وجهة نظري إلى العالم كان من العمق بحيث لا يجوز إغفاله، فهو أحد العوامل الجوهرية في إنتاجي الفلسفي.» فلقد نشأت في محيط يختلف كل الاختلاف عن المحيط الذي نشأ فيه زوجها؛ فهي من أسرة يكثر بين أفرادها العسكريون والساسة، وهو من أسرة يكثر بين أفرادها المعلمون والقساوسة، يقول الزوج عن زوجته: «إن حياتها الناصعة قد علمتني أن الجمال بشطريه، الخلقي والفني، هو الغاية من الوجود، وأن وسائل بلوغه هي الرحمة والحب والنشوة الفنية. وأما المنطق والعلم فيقتصران على أن يكشفا لنا عما هو ذو صلة بالموضوع الذي نكون بصدد بحثه، كما يعاوناننا على اجتناب ما ليس ذا صلة بذلك الموضوع. وعندي أن هذه النظرة تنقل ما قد ألفناه من اهتمام فلسفي بالماضي؛ إذ توجه التفاتنا إلى الفترات التي ازدهر فيها الفن والأدب، باعتبارهما أفضل أداة تعبر عن القيم الجوهرية في الحياة، إلا أن بلوغ الإنسان أعلى ذروة يستطيع الإنسان بلوغها، ليس مرهونا بنشوء مذهب عقلي متسق البناء (وهو ما يقدمه لنا العلم والمنطق معا) على الرغم من أن اتساق الفكر قد أدى واجبا خطيرا في نشأة الحضارة.»
صفحه نامشخص