محاورات ألفرد نورث وايتهيد
محاورات ألفرد نورث هوايتهد
ژانرها
ترجمة
محمود محمود
مقدمة
عملية الفكر تنحل - آخر الأمر - إلى وحدات أولية بسيطة، قوام الوحدة الواحدة منها سؤال وجواب، وقد يكون الشخص الواحد - إذ يفكر لنفسه - سائلا ومجيبا في آن معا، فهو الذي يلقي السؤال على نفسه، وهو الذي يحاول الجواب، وقد يكون السائل شخصا والمجيب شخصا آخر، فلا فرق بين هاتين الحالتين في الجوهر والأساس، ففي كلتيهما «محاورة» هي أس الفكر ولبابه؛ فالفكرة الواحدة بالغة ما بلغت من البساطة كان يستحيل عليها أن تنشأ في ذهن صاحبها، ما لم يكن صاحبها هذا قد وقف من الأمر موقف المتسائل، سواء أخرج سؤاله في صياغة لفظية صريحة، أم لبث مستكنا يظهر في «الوقفة» وفي «النظرة» إن لم يظهر في اللفظ المسموع، قل لنفسك: «إن الشمس طالعة»، أو «إن السماء غائمة» يكن هذا القول جوابا منك عن سؤال أضمرته: «كيف حالة الجو الآن؟»
أساس الفكر حوار، ولقد عبر الإنسان عن نفسه محدثا ومحاورا قبل أن يعبر عن نفسه كاتبا، بعشرات الآلاف من السنين، فمهما بلغ تاريخ الكتابة من القدم، فقد سبقها الكلام، لا، بل إنه محال على الكتابة أن تقاس إلى الكلام في التعبير عما تضطرب به النفس من مشاعر وما يدور في الرأس من خواطر؛ فأنت تعرف الشخص من حديثه أكثر جدا مما تعرفه من كتابته، ذلك بالطبع إن أرسل كلامه على سجيته، ولا عجب أن قال سقراط إلى جليس له ذات مرة إذ رآه صامتا: كلمني لكي أراك.
ولعل الحديث لم يبلغ أوجه إلا على لسان سقراط، ذلك المحدث العظيم الذي كان أول من سجل تاريخ الآداب مثلا للحديث يكون فنا ولا يكون لغوا، نعم ففن الحديث له علائمه وشروطه كأي فن آخر؛ فهو فن إذا خرج منه المتحدثان أخصب فكرا وأصفى نفسا وأرحب أفقا وأغزر شعورا. إن الواحد منا ليحس أحيانا كأنما يريد أن يقول شيئا ولا يعرف كيف يقوله، فالفكرة عندئذ تكون كأنما هي الجنين الذي لم يكتمل خلقا، أو كأنما هي النسمة المبعثرة تسري في كيانه ولم تجتمع أطرافها بعد لتسلك سبيلها إلى اللسان والشفتين ألفاظا مرتبة في أنفاس معبرة، فالحديث فن إذا ترجم لصاحبه عن شعوره ترجمة تحيل ذلك الشعور عقلا؛ أعني أنها تحيله شيئا فشيئا مفهوما لسامعه. ترى ماذا كانت تعني الطبيعة وكيف كانت تكون آثار الفن إذا لم تجد هذه وتلك من في مقدوره أن يتأثر بها ثم يفصح لنا عما تأثر به في كلام بليغ نفهمه فنفهم به الطبيعة والفن جميعا؟ ترى كيف كانت تكون حالة العلوم نفسها إذا لم يكن بين العلماء أحاديث، فهذا يسأل وذلك يجيب، وهذا يعترض وذلك يشرح ويوضح؟ ترى هل كانت تقوم للجماعة قائمة بغير حديث يربط أفرادها كأنما هو الخيوط يشد بعضهم إلى بعض؟
وأعجب العجب أن يكون للحديث الفني هذا الخطر البالغ، ثم لا يفسح له تاريخ الأدب مكانا ملحوظا بين سائر صوره، فقل أن تجد في شتى اللغات أحاديث مسجلة كما وقعت. ومن الأمثلة القليلة التي ترد على الذهن محاورات أفلاطون التي تعد آية في طلاوة فنها وغزارة فكرها، لكنها إن بدت في ظاهرها حديثا تلقائيا بين المتحاورين فهي في حقيقتها مسيرة ملجمة لتبلغ كل محاورة منها هدفها المقصود، فبرغم ما قد ورد على لسان سقراط في إحدى المحاورات وهو يخاطب محاوريه قائلا: فلنتبع الحديث إلى حيث يسوقنا، إلا أن فيلسوفنا لم تغب عنه أهدافه أبدا؛ وبهذا جاءت المحاورات الأفلاطونية في صورة الحديث، لكنها تخلو من خصائص الحديث العابر المنساب.
ومن الأحاديث المسجلة في تاريخ الأدب كذلك، حديث «جونسن» كما صوره مرافقه «بوزول»، وكذلك حديث «جيته» كما سجله «أكرمان»، وعندنا في الأدب العربي أمثلة أقربها شبها إلى المحاورات التي نحن الآن بصدد تقديمها إلى القراء، هي أحاديث أبي حيان التوحيدي التي جمعت في كتاب «الإمتاع والمؤانسة»، وهو من ثلاثة أجزاء. وهنا نقف وقفة قصيرة نقارن فيها بين الرجلين.
تتألف محاورات هوايتهد من ثلاثة وأربعين حديثا دارت في بيته بينه وبين طلابه وأصدقائه في الأمسيات التي كان يخصصها لمثل تلك الاجتماعات وهو أستاذ بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة، وكان من هؤلاء الأصدقاء صحفي أديب هو «لوسيان برايس»، فكان - بحكم حرفة الصحافة - يسجل لنفسه تلك الأحاديث كما كانت تقع حتى اجتمعت له منها مجموعة، فاختار منها ثلاثة وأربعين حديثا؛ أولها حديث السادس من أبريل عام 1934م، وآخرها حديث الحادي عشر من نوفمبر عام 1947م (مات هوايتهد في الثلاثين من ديسمبر عام 1947م وهو في السابعة والثمانين من عمره).
وتتألف أحاديث أبي حيان التوحيدي الواردة في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» من سبعة وثلاثين حديثا، وقع كل منها في ليلة ساحرة من الليالي التي قضاها في حضرة الوزير أبي عبد الله العارض، وقصة ذلك اللقاء هي أن أبا الوفاء المهندس - وهو من الأئمة المشهورين في علم الهندسة - كان صديقا لأبي حيان وصديقا للوزير أبي عبد الله العارض، فقرب أبو الوفاء أبا حيان من الوزير، ووصله به ومدحه عنده، حتى جعل الوزير أبا حيان من سماره، فسامره سبعا وثلاثين ليلة، كان الوزير يطرح عليه أسئلة في شتى الموضوعات فيجيب عنها أبو حيان، ثم طلب أبو الوفاء من أبي حيان أن يقص عليه كل ما دار بينه وبين الوزير من حديث، فأجابه أبو حيان إلى طلبه، ودون كل ما دار بينه وبين الوزير في تلك الأماسي السامرة؛ فكان من ذلك كتاب «الإمتاع والمؤانسة».
صفحه نامشخص