محاورات افلاطون

زكي نجيب محمود d. 1414 AH
89

محاورات افلاطون

محاورات أفلاطون: أوطيفرون – الدفاع – أقريطون – فيدون

ژانرها

فيعترض سمياس وسيبيس بأن هذه الأدلة إنما تبرهن على وجود الروح قبل اتصالها بالجسد، ولكنها لا تدل على خلودها بعد انفصالها عنه، فيرد سقراط عليهما بأن يذكرهما بما اتفقوا عليه جميعا منذ حين بشأن الأضداد وما يتبع ذلك من اشتقاق الأحياء من الأموات، أما أن نخشى على الروح أن يبددها الهواء عند رحيلها، لا سيما إن كانت الريح عاصفة فتفنى بذلك وتزول، فخوف لا يعتمد على أساس صحيح. ولنسائل أنفسنا: أي الأشياء يجوز عليه التحلل والفساد، أهو البسيط أم المركب؟ الثابت أم المتغير؟ الفكرة الخفية أم المرئي المحسوس؟ لا شك في أن المركب المتغير المرئي هو ما يجوز عليه الفساد، وذلك هو الجسم، أما الروح - وهي فكرة خالصة لا تعرف التغير والتبدل - فلا يعتريها الفساد. هذا إلى أن الروح تأمر والجسم يطيع؛ وإذن فالروح شبيهة بالإلهي الخالد، وأما الجسد فقريب من الزائل الفاني. وهكذا مهما قلبت وجهة النظر رأيت الروح تصور القداسة والخلود، والجسد يصور الخصائص البشرية الفانية، فبينا ترى الجسد يتعرض للتحلل السريع ترى الروح تستعصي على الفساد، أو تكاد تستعصي عليه، ومع ذلك فقد يمكن للجسد أن يصان بالتحنيط حينا طويلا من الدهر؛ فهل نحتمل للروح بعد ذلك أن تفنى وتتبعثر في الهواء وهي في طريقها إلى الله الخير الحكيم؟ إن الروح بعد الموت تتجمع في نفسها، وترتفع عن الجسد، وتتخلص من أدران الناس وسخفهم لتعيش مع الآلهة إلى الأبد.

أما الروح التي دنستها الصفات الجسدية وأثقلتها، والتي لا تبصر إلا بأعين الحواس والتي انغمست في الشهوات الجسدية فيتعذر عليها بعدئذ أن تتجرد. مثل هذه الروح تخاف الدنو من العالم الأدنى فتتلكأ وتتثاقل حول المقابر، مشفقة أن تفارق الجسد الذي أحبته، فتراها تدور حول الرموس في صورة الجن، ويمكن للعين البشرية أن تراها؛ لأنها تكون مشبعة بالمادة حتى تنقلب شيئا محسوسا، وينتهي بها الأمر أن تتقمص حيوانا تتفق طبيعته مع حياتها الأولى، حياة الحس والمادة، فتتقمص حمارا أو ذئبا أو حدأة. وأسعد هذه الأرواح الأرضية ما مارس منها الفضيلة بغير فلسفة ، ويؤذن لهذا الضرب من الأرواح أن يتقمص حيوانا وديع الطبائع ذا نظم اجتماعية كالنمل والنحل ... والفيلسوف وحده هو الذي يرحل نقيا طاهرا، وهو وحده الذي يؤذن له أن يضاف إلى عشيرة الآلهة؛ وذلك ما يدعو إلى الترفع عن شهوات الجسد؛ فهو لا يمتنع عن تلك الشهوات خشية الخسارة والعار كما يفعل سائر الناس، بل لأنه يريد ألا يمتزج بالمادة حتى لا تثقله في رحلته الروحية بعد الموت. لقد كان الفيلسوف في حياته مكبلا بما يكبل سائر الناس من أغلال الجسد، ولكن الفلسفة تحدثت إليه فأصغى إلى حديثها، فكانت خلاصا له من هذا العنصر الجسدي الدنيء، وأزجت عن بصيرته غمائم العواعف وخداع الحواس؛ وبذلك استطاعت روحه أن تنجو من تأثير اللذائذ والآلام، التي من خصائصها أن تربط الروح بالجسد كأنها المسامير، لا رغبة منه في أن يظفر بلذة أعظم، ولكن لأنه يعلم أنه لا يستطيع أن يشهد ضوء الحقيقة إلا إذا هدأ وتحرر من قيود الجسد.

ولكن ذلك لا يزيل الشك عند سمياس وسيبيس، ومع ذلك فلم يعترضا، فيستطرد سقراط متعجبا كيف يحاول أصدقاؤه أن يصرفوه عن رغبة الموت، ولماذا لا يكون كالتم

Swan

الذي ينفق حياته كلها في الإنشاد حتى إذا ما جاءه الموت ازداد إنشادا بل كان أشجى في غنائه منه في أي وقت مضى؟ ... وهنا يقول سمياس: إن الحقيقة وإن تكن مستحيلة الإدراك في صورتها الإلهية، غير أنه من الضعف ألا يحاول الإنسان أن يدرك منها أقوم ما يستطيع البشر إدراكه، وإن ذلك ليكفيه ليتخذ منه فلكا يسبح عليه في خضم الحياة، ويمضي في بسط إشكاله قائلا: لقد أقمنا الدليل على أن الروح خفية لا ترى، وأنها غير مجسدة، وأنها لذلك خالدة بعد انفصالها عن الجسد وموجودة قبل اتصالها به، ولكن ألسنا نزعم أنها عبارة عن انسجام، وإذن فيكون ما يربطها بالجسد هو ما يربط النغمة بالقيثارة؟ فما القول إذا كانت النغمة لا تبقى بعد فناء القيثارة؟ وهنا يتقدم سيبيس أيضا باعتراض يسوقه في تشبيه كما فعل سمياس باعتراضه ، فسلم أن الروح أطول بقاء من الجسد، غير أنه اعترض بأن طول بقاء الروح بالنسبة لبقاء الجسد لا ينهض دليلا على خلودها؛ لأننا لو فرضنا أن الروح ستبقى وستحل في جسد آخر ثم في ثالث ورابع وهكذا؛ فماذا يمنع أن يصيبها الفناء بعد هذا كله؟ أليس من الجائز أن تفنى الروح في إحدى هذه المرات ويبقى آخر جسد حلت فيه مدة بعد فناء الروح، كما يقال في العطاف الذي يبقى بعد فناء ناسجه مع أن الناسج أطول بقاء من عطافه الذي ينسجه، فإن من يريد البرهنة على خلود الروح لا يكفي أن يقصر برهانه على أن الروح أطول بقاء من الجسد، أو أنها أطول بقاء من أجساد عدة، بل لا بد من إقامة الدليل على أنها دائمة بعد أن تفني كل ما تحل فيه من أجساد.

إن الناس يميلون إلى مخادعة بعضهم بعضا، ويكره الخدوع منهم أن يثق بأحد؛ إذ يخيل إليه أنه ما دام قد نصبت له شراك الخداع فانخدع فليس بين الناس إطلاقا من يركن إليه ويثق به. وإنه لمما يؤسف له أن ينظر بعضنا إلى الأدلة نظرته إلى الناس، فلا يؤمنون بكل ما يقام لهم من البراهين؛ لأن أحدا قد ألبس لهم الباطل بالحق، ولكنا لا ينبغي بحال أن نعادي الناس جميعا لأننا نكره واحدا أو جماعة من الناس، ولا أن نمقت الأدلة كلها؛ لأننا نمقت طائفة معينة من الأدلة؛ فليس المسئول عن النقص والخطأ هو الأدلة نفسها بل نحن أنفسنا، ولما كان سقراط على حافة الموت فهو يخشى أن يكون ظرفه الخاص داعيا لتحيزه وميله إلى تصديق برهان الخلود، وهو لذلك يستحث أصدقاءه أن يختبروا قوله ويفندوه ما وسعهم التفنيد.

فلا يلبث سمياس وسيبيس أن يعيدا اعتراضيهما، فيقول سمياس: إنه لا ينكر أزلية الروح، ولكنه في الوقت نفسه يرى الروح عبارة عن انسجام الجسد، غير أنه يجد في التسليم بأزلية الروح نقضا لكونها انسجاما للجسد؛ وذلك لأن الانسجام معلول في حين أن الروح علة وليست بمعلول ، الانسجام يتبع وجود القيثارة، أما الروح فتستتبع وجود الجسد، والانسجام تتفاوت درجاته، وليس للروح درجات؛ إذ لا مبرر أن تكون روح أفضل من روح، وإلا فما معنى هذا التفاضل؟ أيكون معناه تفاوتا في درجة انسجامها؟ ولكن الروح لا تقبل التدرج؛ وإذن فيستحيل أن يكون روح أكثر أو أقل انسجاما من روح أخرى. هذا إلى أن الروح لا تنفك تقاوم ميول الجسد ورغباته، وهذه المقاومة لا تتفق مع قولنا: إنها انسجام الجسد.

وهنا يلاحظ سقراط أن اعتراض سيبيس هذا يتناول مشكلة السببية كلها، ويرجو سامعيه أن يأذنوا له أن يقص عليهم تجربته في هذا الموضوع؛ فقد كان يدرس علم الطبيعة أيام صباه وأخذ حينئذ يبحث في كون الحيوان وفساده وفي أصل الفكر، حتى انتهى به الأمر إلى الشك في صحة البديهية القائلة بأن النمو نتيجة الأكل والشرب، فلم يتردد في أن يعرض عن هذا الموضوع موقنا أنه لم يخلق لمثل هذه البحوث. كذلك أربكته المقارنة بين الأشياء كما حيرته فكرة العدد؛ فقد خيل إليه في أول الأمر أنه يفهم الفرق بين الأكبر والأصغر، وأن العشرة أكبر من الثمانية باثنين وما إلى ذلك، أما الآن فهو يرى في هذه الآراء شيئا من التناقض: فكيف تمكن قسمة الواحد إلى اثنين أو تكوين الواحد من اثنين؟ لم يستطع سقراط أن يفسر هذا الإشكال.

ولقد سمع سقراط مصادفة قارئا يقرأ كتابا لأناكسجوراس يقول فيه: إن العقل سبب كل شيء. فسأل نفسه: إذا كان العقل سبب كل شيء؛ فهو من غير شك يسيطر على كل شيء، ويسير به نحو الأفضل. ورجا سقراط أن يجد عند هذا المعلم الجديد أناكسجوراس ما يوضح له هذا «الأفضل» في الإنسان والطبيعة. ولكن سرعان ما خاب رجاؤه؛ إذ ألفى صديقه الجديد مخطئا غير منسجم الفكر باتخاذه العقل سببا للأشياء، فقوله هذا مساو لقولك: إن سقراط جالس في المكان المعين؛ لأنه مصنوع من عظام وعضلات. وبديهي أن ليس ذلك هو السبب؛ فالسبب الحقيقي هو أن الأثينيين قد رأوا من الخير أن يحكموا عليه بالإعدام، وأنه رأى من الخير أن يجيء إلى حيث هو لينتظر تنفيذ الإعدام، فلو أنه سمح لعظامه وعضلاته أن تفعل ما تشاء وما تراه واجبا، لنفرت من ذلك المكان منذ زمن بعيد؛ وإذن فلا ريب في أن في هذا القول خلطا كثيرا بين السبب والحالة، ويؤدي هذا الخلط بالناس إلى نظريات خاطئة في وضع الأرض وحركاتها.

فليس بين الناس من يعلم ما هو «الأفضل» الذي تسعى إليه الدنيا، والذي هو علة تحركها.

صفحه نامشخص