هزت رأسها قبل أن تقول: نحن مجبرون أن نجد شيئا ما ننتظره حتى لا نموت. وكما فهمت فأنت لا تريد الموت.
بات واضحا أن كلانا يريد أن يحيا .. ولكن ما معنى ذلك؟ لقد أخبرتها بأنني كنت أسعى للحاق بزوجتي، وهناك سأمارس وجودي، وهل لهذا معنى أيضا؟ لا أعرف. لا أعرف شيئا .. كان واضحا لكلينا أنني لا أريد إلا أن أتزوج وأتناسل وأظل إلى الأبد موجودا .. قلت لها إن الجمال يفنى .. تجرأت واعترفت بأننا لسنا أحرارا وأن الجمال لا معنى له إن انتهينا.
كل ما في الأمر أنني أردت عائلة فهي الأثر الوحيد المضمون في هذا العالم .. أما هارمونيكا فلم تجبني بشيء .. مجددا تصمت، ترفض شيئا ما مني، لا أعرف ما هو .. ها أنا ذا أعود إلى الأسئلة مجددا .. ولكن لا بأس فقد كان يجب أن أسألها مجددا «ماذا بعد؟» لترد بنفس الإجابة، لأسألها بإلحاح: ولو جاء زرياب مصادفة، ماذا بعد؟ - سأعانقه. - وماذا بعد؟ - نغني معا، فهو يمتلك صوتا جميلا. - وماذا بعد؟ - نجلس على الشاطئ ونحصي النجوم. «يا لسخافتها!» قلت في سري وسألتها بصوت أكثر وضوحا: ماذا بعد؟ - لا شيء! - حسنا .. لا شيء إذن. - أجل. لا شيء.
غضبت وأردفت: حرفيا لا شيء .. أنت وهو ووجودكما والناي والجمال .. فناء .. ليس ثمة ما يبقى بعد الموت! - يبقى الجمال، ألم أخبرك؟
إنها مصرة إذن على هذا النوع الساذج من المثالية. قلت بشيء من الهدوء: كل شيء زائل! .. فما معنى الجمال إن غبنا عنه؟ وما معنى الوجود بأكمله إن غاب من يدركه؟ صدقيني: نحن عابرون رغم كل ما نفعله؛ صراعاتنا، حقائقنا الصغيرة والكبيرة، انتظاراتنا التي تسخر منها، كلها ستهوي إلى عدم لحظة موتنا! - شيء ما يبقى .. وإلا لم نحيا؟
غابت مجددا في عزفها وغبت مجددا وأنا أومن بأن شيئا ما يبقى .. أعرف جيدا أن حياتنا ما هي إلا رحلة من الولادة إلى الموت، وأن وجودنا ما هو إلا محاولة لأن نخلد الطريق والرحلة، لقد ذقت من البؤس أكثر من غيري، ورغم ما عشته من تعاسة وفقدان، إلا أنني ازددت إيمانا بحقيقة بسيطة خاصة بي وهي أن الحياة نفسها هي مشروعي في الحياة، ولكن هارمونيكا لا تفهم .. لا تفهم ولا تريد أن تفهم، وأنا أومن مثلها أن شيئا ما يبقى. نظرت إلى عينيها وهي تعزف، وقلت فيما أنا أنظر إليها: أجل .. شيء ما يبقى.
ابتسمت وواصلت العزف، وهنا تعبت منها، تعبت من تجاهلها عن جهل أم قصد، لست أعرف، فأوضحت: ليس الجمال .. قد يكون الموت هو الحقيقة الأقسى، وأننا بوعينا لحقيقة الموت إنما نعي قسوة الحياة نفسها؛ لذا وجب على البشرية أن تتحايل على الموت.
توقفت عن العزف، فقلت مصارحا: ما الجدوى من الجمال إن كان صاحبه سيموت؟ لمن سيبقى؟ - للبقية من الأحياء، ألا يكفي؟ - لا .. يجب أن يبقى شيء منا أولا.
لقد ضحكت وهي تقول: أسخف فكرة للخلود هي التناسل للوجود.
إذن فهي تفهمني منذ البداية .. ورغم ذلك لم أكتف بهذه الإجابة وطلبت منها أن توضح أكثر، فقالت: إنها فكرة تزدرينا وتستخف بإنسانيتنا .. تجعل منا محض مركب محمل بالجينات .. وفي اللحظة التي تتسرب جيناتنا إلى أولادنا نفقد أنفسنا تماما. - ولكنها قبل ذلك تضمن لنا الاستمرار. - وما الجدوى؟ أي حيوان تافه، يا عزيزي، يستطيع فعل ذلك وبكل تواضع، ولا يضطر لأن يصرع الدنيا أنه تمكن من تمرير جيناته .. أترى كم تزدرينا هذه الفكرة وبكل قبح؟ - ومن قال إن الحقيقة دائما جميلة؟
صفحه نامشخص