أجبتها وكأن الأمر لا يعنيني: على الأقل ليس في الشرطة.
خرجت صوب الباب، تبعتني لتفتح لي، سمعنا صوت محرك سيارة، ذهبت مسرعة إلى النافذة المطلة على الشارع، وعادت هلعة لتخبرني بأنه زوجها وقد وصل على حين غرة، ولم يكن مني إلا أن أندفع مجنونا إلى الباب الخلفي، فأسرعت صوبي وشدتني من قميصي وهي تتلعثم: مهلا .. ولكن .. حسنا، ثمة مركز شرطة في نهاية هذا الشارع.
تراجعت عدة خطوات ثم تسمرت مرتجفا في مكاني، وشعرت بشيء جنوني يحدث لي لأول مرة، وكل الأشياء الفوضوية صارت تسير في خط واحد؛ الدراسة، غياب الوظيفة، أمي، المطعم، تصريح العمل، الشرطة، رجل المخابرات .. كلها في خط واحد تطفو فوق كل شيء ثم تعلو وتنقض منفجرة على قلبي تماما. كنت ألهث خوفا، والعجز اللعين يقتل كل الحلول الممكنة التي بدت مريبة وتبعث في وجداني ذاك الحقد الأسود على كل شيء.
أن أقف على مفترق مأزقين: التورط برجل مخابرات أم بدورية الشرطة؟
أما ديفال فقد جلبت لي قميص زوجها وقدمته لي، فلا أحد، كما قالت، يفتش رجال المخابرات، أخذته من يدها وارتديته سريعا حائرا فيما يجري، عدلت لي قبة القميص فكادت تخنقني ومسحت بيدها بطاقة المخابرات، ثم لذت بالفرار من الباب الخلفي لأسمع صوتها يلحقني: لا تنس لقاءنا القادم .. وقد غدا الآن أكثر أهمية!
وبعد عدة أيام اتصلت بي وأخبرتني بأنها وزوجها يريدان مقابلتي لأمر هام للغاية.
شهيد
علقوا له العديد من الصور، أغلقوا الشارع العام ورفعوا فوق سطوح بيته رايات بألوان العلم الأربعة، أوصى البقال على كمية كبيرة من التمر، أحضر الشاعر أوراقه وبدأ ينظم قصيدة، أما أمه فقد احتمت من البكاء بالزغاريد؛ في كل لحظة توشك الدموع أن تنهمر كانت تطلقها على شكل زغرودة أخرى.
هم أحد أصدقاء الشهيد بمنعها لولا أنه كان يحمل التابوت، كان ثقيلا جدا ولم يستطع أن يتركه ويذهب إليها، نظر فيه عابر جنازة، وقال: «دعها وشأنها .. يجب أن تواصل الزغاريد.» وبدأ بالهتاف بأعلى صوت: «زغردي يا أم الشهيد .. ابنك في الجنة أكيد.» الناس كلها تكرر الهتاف ذاته.
أمه تواصل ولا تبكي .. ربما الجنة وحدها ما تدفع الدموع إلى الجفاف لتنطلق بسمة الأم ويتحول النواح إلى هتاف، والحزن إلى فخر واعتزاز. أما عن الشيخ الذي كان يمشي في المقدمة فقد قال: «كان دوما يرتاد المساجد.» علق آخر: «كان مثقفا.» وبدأت الأصوات تخرج بين الهتاف والهتاف وتغزو التابوت: رحمه الله كم كان شجاعا! - رأيته عندما كان يترأس المواجهات. - هجم وحده على الدورية. - يقال إنه كان يملك سلاحا. - نعم .. الجنود سيقتحمون البلدة ليلا .. أنا متأكد.
صفحه نامشخص