كانت واقفة أمامي، أقول الحق، رأيتها جيدا، لمستها، وجدتها بالفعل، وكانت حزينة جدا، بائسة، كانت تمتلك من الوجع ما لم أختبره في حياتي، مشت صوب الحفرة، تعثرت بحجر آخر ولم تقع، إنها تتعثر أيضا كسائر البشر الموجودين في العالم، وتمشي تماما مثلنا، وكأي بشري وقفت أعلى الحفرة وقالت: تعبت من الانتظار .. أو تعبت .. الأجدر أن أقول تعبنا أليس كذلك؟
انفجرت منفعلا: قولي أي شيء!
وهنا أخذت نفسا واسترسلت: انتظرت زرياب لوقت طويل لا أذكره .. تعبت من انتظاره لدرجة أنني تمنيت أن يكون قد مات غرقا في البحر على أن يتركني في تلك الحالة المريبة من الانتظار البائس .. أتعرف تلك اللحظة التي يتحول فيها كل شيء في حياتك إلى عبث؟ عبث وأسئلة، لا أعرف شيئا من حولي .. لم أعد متأكدة من أي شيء في حياتي .. انتظار وحسب .. حياتي هنا لم تكن إلا محاولة يومية للتأكيد على وجودي، أقول الصدق رغم ما في العبارة من تناقض ظاهري مع مقاومتي لفكرة الانتحار .. عبثت بالماء وعجنته بالتراب حتى صار طينا .. وضعت الطين أرضا وجربت أن أترك أثرا على الصخرة .. يا الله كم كنت ضعيفة! أبحث عن وجودي في الطين وعن المعنى في عبث الجزيرة! .. لقد حفرت هذه الحفرة .. إني أصنع شيئا ما .. لقد نزفت دما ولمسته بيدي .. ضربت كف يدي بالصخرة وطبعت أثر يدي هناك .. قد رأيت الطين والدم وكل آثاري ولم أتيقن بعد من وجودي.
شعرت ببدني يقشعر، وجسدي ينقبض على نفسه، لساني أصبح ثقيلا ولم أتمكن من إيقاف الرجفة في شفتي، وشعرت بنفسي أهذي وأنا أقول: لست أفهم أي شيء .. معدتي تؤلمني .. أمعائي ..
قاطعتني منفجرة: تنقبض وتكاد تتمزق، والقلب ينبض بسرعة، الجسد يوهن والنفس ثقيل، وشيء ما صلب داخل الصدر يضرب في قلبك .. أنا أيضا أصابني كل هذا قبل أن أقطع الضفائر وأقف محتارة: أأستخدمها لصناعة قارب من الجذوع وأرحل عبره إلى أي مجهول آخر؟ أم أصنع منها حبل مشنقة وأتخذ آخر قرار بحياتي أن أنهي حياتي .. ولم يكن مني إلا أن انتحرت.
صمتنا مجددا، هي لا ترغب بالحديث وأنا عاجز عن أي شيء .. مجددا أشعر بالعجز.
راحت تسكب الماء على الجثة؛ كي لا تتعفن، وأخبرتني أنها ما إن انتحرت حتى استيقظت لترى جثتها أمامها، ولم تستطع دفنها .. أي فعل كانت ستفعله كان سيهدد وجودها .. شيء ما فيها يستمر .. ثمة ما يبقى بعد الموت .. ليس المهم أن يكون حقيقيا أم وهما .. أيمكن أن نكون نحن أنفسنا الأثر الذي نتركه؟ لقد قلت إن الموت حقيقة والانتحار ممارسة للحقيقة .. وقد قالت بأن لا شيء في حياتها هنا كان يقينيا .. الموت هو اليقين الوحيد .. أما وجودها فقد بقي .. ذاك الوجود الذي شكت في كل تفاصيله .. بقي بعد الموت، وبقيت شكوكها حوله .. طلبت الحديث معي، وأصرت على بقائي هنا، تلك هي الممارسة الوحيدة الممكنة للوجود .. وفي هذه اللحظة شعرت بخوف مريب، فربما لا يوجد منطق هنا، ولأتفق ضمنا بأنه «لم يمت أحد تماما.» ولكن هناك شيء مرعب لشخص مثلي يريد أن يكون .. ربما الوجود نفسه هنا مغاير أو غائب .. قد تكون حاجتي الملحة لشريك يقاسمني المستقبل والتناسل هي من دفعتني لأن أتخيل هارمونيكا. ربما تكون هذه المرأة الغريبة ما هي إلا وحي من الرغبة. وربما لم تنتحر بل جاءت فالتقت مصادفة بجثة وتخيلت أن نهاية الطريق هنا هي الانتحار فعلقت هناك. لا شيء يقيني.
تملكني الخوف حقا، تجاهلتها تماما، أحضرت الجذوع التي كانت ستكون سبيلي للنجاة وصنعت منها تابوتا، وضعته فوق الجثة .. لأقل جثة الغريبة ولو بشكل مبدئي .. وظل الخوف مسيطرا .. فلم يكن مني إلا أن حدثتها وأنا أصنع التابوت دون أن أنظر: هارمونيكا .. أنت هنا؟ .. أريد أن أراك .. سأنتهي حالا من التابوت وأرفع عيني وسأراك، أليس كذلك؟ يجب أن أتأكد من أني لم أزل أستطيع رؤيتك .. يقال إن كل ما هو متخيل يظهر في لحظة العجز عن التفسير، أما الآن وبعد أن فهمت فلا يجدر بأي متخيل أن يظهر .. يجب أن أراك لأتأكد أنا الآخر من وجودي .. أنت هنا أليس كذلك؟
ولم أجسر أن أرفع عيني لأرى .. ولم أنظر إلا عندما سمعتها تعزف .. لقد عادت للعزف بمحض إرادتها.
كانت في الأسفل، حيث بدأت حكايتنا؛ أنا من هناك وهي من هنا، أما الآن فهي في الأسفل وأنا في الأعلى، وما هي لحظات حتى مرت سفينة من جانب الجزيرة التفت إلى هارمونيكا وقلت: تلك سفينة ذاهبة إلى اليونان.
صفحه نامشخص