عادت إلى صمتها، دون أن أفهم هل تتجاهلني، أم تسخر مني، أم أنها تشرد مجددا؟ كل ما أعرفه أنني أحتاجها بقدر ما أحتاج الحياة. ولو أنفقت تلك الساعات في الثرثرة بأمور كهذه فذاك لم يكن إلا محاولة لأن أكون معها.
4
استيقظت ولم تكن .. ناديتها ولم أسمع أيما إجابة، رفعت صوتي مغنيا: «وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود.» لقد ناديتها بكلمات الأغنية كاملة، وأحسست بشيء في داخلي يسخر مني؛ ذاك أنني أرفض هذه الكلمات، ولا تعنيني الأغنية في شيء. يبدو أنني من ذاك النوع الذي يمتلك قدرة مهولة على الإلقاء بأفكاره مهما كانت، ويتبنى أية فكرة تربطه بالمرأة التي يرغب بها ويريد أن يحيا معها.
لم يكن علي إلا أن أمشي وأعود إلى منطقة «الخطر»، تلك التي لا تريدني أن أعرف شيئا عنها، هناك حيث الشجرة والضفيرة والرائحة النتنة، وبالفعل ذهبت ورأيتها دون أن تراني، لقد قطعت بالسبيكة جزءا آخر من شعرها، كانت تبدو كمازوخي يهوى تعذيب نفسه، تقطع من شعرها كمن يقطع من جلده ولحمه .. ثم تنزل وتتوارى خلف الصخرة، وبعد هنيهة تصرخ .. أجل لقد صرخت، وقالت: «لا شعر يكفي!» ثم بكت، وقالت: «الديدان ستجد لنفسها ألف منفذ إلى هذا الجسد البائس.» وما هي إلا لحظات حتى وقفت وراحت تحكي بانفعال عارم كممثل تراجيدي يؤدي مونولوج النهاية: «أنا الآن هنا .. لقد تحدثت مع الغريب .. أعرف أنك ترفضين ذلك. لا لم أطرده، لقد كذبت، لم أكذب، بل طلبت إليه الرحيل في البداية ولم يفعل .. أنا أحتاجه .. تعرفين ذلك حق المعرفة .. وحده من يتيح لي ممارسة وجودي .. أما أنت؟ أنت الآن لا شيء .. فناء ثم لا شيء .. لقد انتهيت تماما، أتعرفين؟ قبل كل شيء قد انتهيت .. زرياب أنهى حياتك منذ زمن طويل .. تعفنت وأنت تنتظرين من لن يأتي .. والآن ماذا؟ أنا هنا وأنت لا شيء .. من منا يستطيع الاستمرار؟ قد يأتي الغريب ويتعثر بجثتك ولكن ما معنى ذلك؟ هل يعني موت كلينا؟ أم موت واحدة وحياة الأخرى؟ .. حتى الآن، أنا الباقية .. ككل شيء، كفكرة الغريب عن الجينات .. البقاء للأصلح .. للفكرة الأفضل .. للأقوى .. اختاري ما تشائين، لا يهم، وإن كان لكل هذا معنى فهو أن من حقي أن أختار حياتي وأستمر فيها كما أشاء الآن وهنا.»
انتهت من حديثها وانطفأت حرقتها شيئا ما مع المحافظة على شيء من الغضب، ثم قفزت لتنزل من الأعلى إلى الأسفل، تعثرت بحجر صغير جدا، وكادت تقع لولا أنها تمالكت نفسها في آخر لحظة، لقد نظرنا معا إلى قدمها، كانت تقف على رءوس أصابع قدم واحدة .. كلانا استغرب الأمر .. وبعد هنيهة واصلت نزولها برقصة ملفتة، والتقت بي في الأسفل، وهذا ما أحيا غضبها مجددا. - ماذا تفعل؟
لقد اشتعل عدد مهول من الأسئلة في رأسي، ولم أعرف من أين أبدأ، إلى أن سألتها في نهاية الأمر: لم تقطعين شعرك بهذا الشكل؟
أجابت بحسم: لا شأن لك.
ولم تطلب إلي الرحيل بل وقفت صامتة، ولأول مرة يكون الصمت بهذا الثقل، لقد كان صمتا طاغيا وكثيفا كالوحل، إنها لا تخفي سرا، بل حياة كاملة لا أحد يعرف عنها شيئا .. لم أعتد الإلحاح ولكن صمتها يلح على فضولي .. ربما ليس الفضول .. ثمة ما هو أبعد من ذلك، قد تكون الرغبة، بادئ الأمر كانت محض رغبة بالبقاء وعدم الموت .. رغبة بالتناسل .. أما الآن فهي رغبة جامحة بالدخول إلى عالمها .. لقد سألتها عن شعرها مجددا وحياتها، وعن الجثة التي كانت تحدثها في الأعلى، وبقيت أسأل وهي لا تجيب إلى أن انفجرت: لا شأن لأحد في حياتي .. لقد أنهى حياتي، أتعرف؟ زرياب .. أجل زرياب أخفى ملامحي وحياتي وأنا أبهت يوما بعد يوم .. أنا لا أذكر اسمي، أتعرف؟ لا أعرف شيئا عني .. أعرف أن أبي لم يكن يحبني وأن أمي امرأة مسكينة ولا شيء آخر .. أما الآن ومنذ أقل من دقيقة فقط، فأتذكر أنني ..
تنهدت ثم قالت بهدوء: أنا لست عازفة .. لقد دخلت قسم الرقص .. زرياب من أرادني موسيقية.
أخذنا جولة أخرى من الصمت قبل أن تقول ببرود وهدوء مفاجئين: لا أحب العزف يا رجل! .. أتعرف؟ زرياب لا يستطيع العزف .. وصوته قبيح أيضا .. نعم صحيح .. صوته نشاز .. أجل أجل نشاز .. أيستحق رجل بصوت بشع ونشاز أن أنتظره كل ذلك الوقت؟
صفحه نامشخص