وأما المماليك فإنهم بعد كسراتهم المتتابعة التي أصابتهم على أيدي الفرنساويين وما وقع بهم من فناء فيها، كانوا قد تضاءلوا وأمسى عددهم لا يزيد على خمسة آلاف، ولم يكن في استطاعتهم تجديد قواهم؛ لأن الباب العالي الراغب في القضاء عليهم كان قد أصدر أمرا حال بينهم وبين ذلك بتحظيره بيع الشبان في إقليمي الكرج والشركس. غير أنهم مع ذلك كانوا يمنون نفوسهم بالعودة إلى ما كانوا عليه قبل الحملة الفرنساوية من الاستبداد بالأحكام. ولو كانوا متحدين متناصرين ، ربما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ولكن زعيميهم الأكبرين: عثمان بك البرديسي ومحمد بك الألفي؛ نزعا إلى منافسة فتحاسد فتباغض، فعداء صريح؛ فأوجب ذلك وهن قوة الأمراء ومكن أعداءهم منهم.
على أن ما كان بين البرديسي والألفي من منافسة كان أيضا بين يوسف باشا الصدر الأعظم، وقجك حسين باشا أمير البحر. ولكن نفوذ هذا - وكان رفيق صبوة السلطان سليم الثالث، ومجدد بهجة العمارة العثمانية - تغلب على نفوذ ذاك فتمكن من جعل الباب العالي يقلد مملوكه خسرو باشا ولاية مصر - كما قلنا - وأن يعهد إليه في مهمة القضاء على المماليك.
فلما قدم خسرو باشا إلى القاهرة واستلم مهام وظيفته انسحب يوسف باشا إلى سوريا، غير مخلف في القطر من جيشه الزاخر سوى 13 ألف رجل. وأقلع القبطان باشا بسفنه تاركا لمحسوبه 4 آلاف ألباني كانوا من أولئك الثلاثة عشر ألفا بمثابة القلب من الجسد.
فأسرع خسرو باشا إلى اغتنام العداوة القائمة بين البرديسي والألفي، وشرع يعمل على إضعاف قواهما بالدسائس تارة وبالترغيب أخرى. وكان المماليك - بعد أن تحققوا من نيات تركيا نحوهم - قد نزعوا إلى القتال، وأخذوا يجتاحون البلاد ويمنعون الأموال عن الحكومة.
فسير خسرو لقتالهم فرقتين من الجند: إحداهما تحت قيادة يوسف بك، أحد المقربين إليه، والأخرى تحت قيادة محمد علي.
فتقدمت القوتان بسرعة نحو دمنهور حيث كان ثمانمائة مملوك تحت قيادة عثمان بك البرديسي قد اتخذوا موقعا حصينا يهددون منه العاصمة ويتمكنون فيه من الاتصال بالإنجليز - وكان جيشهم لا يزال بالإسكندرية - ولكن يوسف بك سبق محمد علي، وفي صباح اليوم الثالث والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1802، صف وراء دمنهور جيشه، وكان يزيد على سبعة آلاف مقاتل، وشرع في إطلاق النيران على المماليك، فما كان من عثمان بك البرديسي إلا أنه انقض بفرسانه على جنب الجيش التركي اليسار - وكان مكشوفا - فاخترقه، وداس الرجال تحت حوافر جياده؛ فذعر العثمانيون وأركنوا إلى الفرار، فركب البرديسي برجاله ظهورهم وأعمل فيهم السيوف فقتل منهم أكثر من خمسة آلاف رجل، بينما لم يقتل من رجاله سوى ستين . ثم عاد واستولى على جميع مدافع أعدائه وذخيرتهم. ولم ينج يوسف بك من هذه الكارثة إلا بكل مشقة. ولكي يخفف من وطأة المسئولية عليه، رأى - بالرغم من أن عدد الجيش الذي قاتل به الثمانمائة مملوك؛ كان تسعة أضعاف هؤلاء - أن ينسب انكساره لدى خسرو باشا إلى تخلي محمد علي عنه في المعركة.
ومن المؤكد أن محمد علي كان يستطيع - لو شاء - الإسراع بجنده، والاشتراك مع يوسف بك في القتال.
ولكن محمد علي كان قد انتهى من النظرة التي ألقاها على مجاري الأمور حوله إلى أنه أدرك أن القطر ممزق مدوس، وأن القوم يشتغلون كل لمصلحته بتأثير منفعة كل منهم الشخصية، ولو أدى تحقيق هذه المنفعة إلى خراب عام. وإلى أنه ليس بين كبار قواد العثمانيين واحد فقط كفؤا للمهمة التي وضعها الباب العالي نصب أعينهم. ووزن خسرو باشا رئيسهم الأعلى، فوجده ناقصا لا يصلح لمهمات الأمور؛ لأن إدارته أظهرته رجلا سيئ التدبير، غير محسن التصرف، محبا لسفك الدماء غير مترو في ذلك، لا يضع شيئا في محله، يتكرم على من لا يستحق، ويبخل على من يستحق، كثير الغرور، ومطاوعا لمن أحدق به من قرناء السوء، فحكم بأنه إذا هو وضع كفاءته في خدمته كان مغفلا.
ورأى محمد علي من جهة أخرى، أن المماليك - على ما بهم من وهن - لا يفترون منشقين بعضهم على بعض. ووزن رئيسيهم الأكبرين؛ فوجد أن عثمان بك البرديسي - وإن لم تعوزه صفة واحدة من صفات البطولة الحقة - لم يكن يصلح لتولي زمام الأمور؛ لأنه كان رجلا قصير النظر، ليس لديه شيء من الحكمة والفطنة اللازمتين لمن يريد أن يحكم الناس ويسوسهم، يغلب عليه تسليم زمام أعماله إلى انفعال أهوائه، وانفعال أهوائه إلى وساوس الخناسين من الأبالسة والناس. ووجد أن محمد بك الألفي - على بطولته التي لم تكن تحتمل أن يشك فيها - كان رجلا كبير الغرور بنفسه، كبير الميل إلى اللذات، متقلب الأهواء، فخورا، يهمه أن يتزوج من كل بدوية تعجبه، على أن يطلقها بعد أسبوع أو أسبوعين ، وأن يرتدي الملابس الفاخرة الساطعة. وأما الشئون العامة فلا تهمه إلا بقدر ما هي ينبوع تنعم ونفوذ له.
فحكم بأن رأي الدولة العلية في المماليك صائب، وأن مصير البلاد إلى أيديهم مصيبة كبرى عليها، وأنهم، إن لم يرعووا ويقلعوا عن فوضاهم، ويمتثلوا للأحكام، ويكونوا جزءا من الهناء العام بدلا منهم معكريه؛ كانت مطاردتهم واجبة، وكان استئصال شأفتهم بجميع الوسائل الممكنة أمرا مرغوبا فيه وعملا مبرورا.
صفحه نامشخص