فذهبت فرقة ألبانية وأتت بخورشد من الإسكندرية في 2 أبريل، وفي 28 منه أتاه فرمان التثبيت من الأستانة.
وكان خورشد رجلا أذكى ممن سبقوه وأشد مراسا، فحاول جهده للخروج من قبضة الرجل القدير الذي أراد تحريكه على المسرح كما حرك عليه أسلافه. ولكن محمد علي لم يمكنه من ذلك، ووقف له بالمرصاد، يستفيد من كل غلطة يرتكبها، لينفر منه النفوس، ويثير عليه الضغائن.
فما استقر خورشد في كرسيه إلا ورأى المال يعوزه، فأمر بتحصيل الميري عن السنة كلها مقدما؛ فنفر هذا الأهالي منه، ثم شرع يبحث عن كل من له علاقة بالمماليك ويصادره. ولكن المماليك ثأروا لمريديهم ولأنفسهم بمنع الوارد من غلال وأقوات عن العاصمة، فجاعت وزاد جوعها في نفورها من خورشد، وازدادت أمام خورشد صعوبة الحصول على المال اللازم، فما كان منه إلا أنه أرسل يوما واستدعى إليه في القلعة الست نفيسة أرملة مراد بك، وكانت - لفضلها وبرها وتقواها - محبوبة ومحترمة جدا من الجميع، وأخذ يتذرع بحجج شتى لاستخلاص نقود منها، فبلغ الأمر مسامع القاضي ومشايخ الأزهر، فأسرعوا إلى الوالي، وبينوا له مقدار الخطأ الذي ارتكبه. فادعى أن نفيسة هانم تفسد عليه جنوده في مصلحة المماليك، وتعدهم إن هم انفضوا عنه بدفع مرتباتهم لهم، ففاتح المتعممون الست نفيسة في ذلك، فقالت: «إنه لم يعد لي بين المماليك لا أب، ولا زوج، ولا أخ، فبأي داع أخدم مصلحتهم؟ إني أرى أن كل هذا تحايل لابتزاز أموال مني ليس لدي منها ظلها، لأني قد أصبحت في حال لا تمكني من القيام بواجبي نحو نفس من خدمني ويخدمني!» فعاد المتعممون إلى خورشد، واجتهدوا في حمله على إطلاق أسيرته فأبى، وبالرغم من إلحاحهم وتوسلهم أصر على الإباء، فنفروا حينذاك منه، وقالوا له إن إصراره هذا إنما يعتبرونه امتهانا منه لكرامتهم. فتداخل بعض كبار المرتبة في الشأن، وانتهى الأمر بتصريح خورشد للست نفيسة بالإقامة في بيت الشيخ السادات. وكانت عديلة هانم - بنت إبراهيم بك الكبير - قد لجأت إليه أول ما بلغها ما أصاب نفيسة هانم؛ خشية أن تصاب بمثله.
ولما أدرك خورشد أن معاملته للست نفيسة زادت في إبعاد القلوب عنه، بدون أن تجديه نفعا، لجأ إلى وسيلتين أخريين للحصول على نقود، فجمع الوجاقلية وفرض عليهم ألف كيس وأبقى بعضهم لديه رهائن، ثم فرض خمسمائة كيس على الأقباط ومائة وخمسين كيسا على المسيحيين السوريين المقيمين بمصر. ومع أن «ميري» السنة الجارية لم يستطع تحصيله، أمر بتحصيل «ميري» السنة التالية. وأخيرا فرض ضريبة على أرباب الحرف والصنائع في العاصمة. ولكن هؤلاء ثاروا في الحال، واحتشدوا في الأزهر، وجاهروا بالتمرد والعصيان، فاضطر خورشد إلى تسيير مناد في المدينة ينادي بأن الفقراء يعفون من دفع الضريبة، ولم يكن بين أرباب الحرف والصنائع من غني البتة.
الأمير بشير الشهباني.
على أن عدم وجود نقود عند الوالي جعله لا يستطيع دفع رواتب الجند. وعدم حصول الجند على رواتبهم أدى بهم إلى التعدي على الأهلين والتجار وسلبهم، فنجم عن ذلك أن التجار أغلقوا حوانيتهم، والأهلين امتنعوا عن الخروج من منازلهم، فوقفت حركة الأعمال، وبدت المدينة كأنها مهجورة، لا يتجول فيها سوى الجنود والألبانيين، فرأى خورشد أن يصادر نساء المماليك، اللائي كن رهائن لديه، فابتز منهن ألفا ومائتي كيس. وكان قد أتى فرمان من الأستانة يتضمن شكرا لمن ساعد على البطش بالمماليك، فعقد خورشد ديوانا كبيرا لتلاوته، وبعد الفراغ من قراءته استدعى العلماء إلى قاعة الاستقبال، وألبسهم فراوي من سمور كالمعتاد، وألبس كذلك مدير دار السكة، ومراقب عموم المالية واثنين وعشرين وجيها من الأقباط، ولكنه طلب إليهم في اليوم التالي، مقابل ما نالوا من إكرام على يديه، أن يدفعوا له ألف كيس على سبيل العارية الإجبارية.
السلطان محمود الثاني.
هذه الحال المؤلمة استمرت إلى أن مل المماليك البقاء على مناوشات لا طائل تحتها، حول القاهرة، فاقتلعوا خيامهم وساروا إلى الصعيد. وكان الخوف كله - حتى هذا الانسحاب - في أن ينضم رجال الألفي إلى رجال البرديسي ورجال إبراهيم بك؛ فإن الألفي - وكان بعد ما أصابه من نكبة، مختبئا عند شيخ من مشايخ عرب الشرقية - ما درى بما حصل في مصر للبرديسي إلا وخرج من مخبئه وأتى على رأس جانب من رجاله، وأقام في قرية على ضفة النيل اليمنى على مسيرة يومين من القاهرة، وأخذ من جهة يسعى إلى التقرب من البرديسي، ويراسل من جهة أخرى خورشد باشا في السر للوصول إلى اتفاق معه، فاستقبل خورشد رسوله بحفاوة وأهداه محمد علي جوادا مطهما.
وبينما الوالي وزعيم الألبانيين يجتهدان في إبقاء الألفي على الحياد، كان محمد علي لا يفتر عن مقاتلة مماليك البرديسي في المعتمدية، والإيقاع بهم والرجوع يوميا إلى القاهرة برؤوس بعضهم مشكوكة على رؤوس الحراب. ولما ابتعد المماليك نحو تخوم القليوبية، ليحملوا جند الولاية على الخروج إليهم من استحكاماتهم، لم يجسر سوى محمد علي على اقتفاء آثارهم ومطاردتهم من القليوبية إلى المنوفية، فلما أن فعل ذلك عاد إلى القاهرة لاضطراره إلى دفع مرتبات جنوده، وإذ كان يعلم أن مطالبة خورشد بها لا تجدي نفعا، قبض على اثنين من أغنى وجهاء المدينة ومن محسوبي الوالي، ولم يخل سبيلهما حتى دفعا بين يديه خمسمائة كيس.
مؤسس الوهابية.
صفحه نامشخص