72

محمد علی جناح

القائد الأعظم محمد علي جناح

ژانرها

أما المتاعب التي جاءتهم على غير انتظار، أو على خلاف ما قدروه، فأولها متاعب الطابور الخامس مأجورا وغير مأجور، فاستغل الدساسون ربكة القلق التي ساورت أصحاب المصالح وزينوا للضعفاء منهم أن ينفصلوا باختيارهم؛ لأن علاقاتهم بأقاليم الهند أوثق من علاقاتهم بأقاليم الباكستان، وأشاع بعضهم أن الحكومة في صدد إلغاء اللهجة البنغالية التي يتكلمها أكثر من نصف السكان، وأشاعوا أن القبائل ستحكم على نظام جديد، وهي تلك القبائل التي لم تعرف نظاما للحكم منذ آلاف السنين غير نظامها الموروث، وأشاعوا أن الحكومة سترفض الدين و«تتفرنج» في تقرير قواعد التعليم والقضاء، وكان على ولاة الأمر أن يلاحقوا هذه الإشاعات بالتكذيب العملي تكذيب الوقائع الملموسة قبل أن تستفحل وتستعصي على التدبير؛ لأن تكذيب الأقوال في هذه الأحوال قلما يصغى إليه.

وعرف القائد الأعظم أن العدو الأكبر في هذه الغاشية المتراكبة هو الرشوة والسوق السوداء، فضرب على أيدي المفسدين من الموظفين والتجار بغير رحمة، ولم يكن له مناص من قمع الرشوة والعمل على استئصالها من دواوين الحكومة؛ لأن التجارة الصادرة كلها قد آلت إلى أيدي الدولة، فلا أمل في عمار الدولة مع العبث والفساد في الدواوين.

ولا نطيل في سرد المتاعب، ولا في سرد الجهود التي تغلبت عليها، فقد تغني عن الإطالة هنا مقابلة الأرقام في باب واحد بين السنة الأولى بعد التأسيس والسنة الخامسة؛ إذ ارتفعت موارد الدولة من نحو ستمائة وسبعين مليون روبية إلى نحو ألف ومائتين وسبعين مليونا، وزاد الوارد على المنصرف بعد أن كانت ميزانية الدولة منصرفا لا مورد له على الأكثر غير القروض.

أما نظام الحكم في الدولة فهو قائم على أساس الديمقراطية والدستور، وأن تكون الأقاليم مستقلة في حدودها مشتركة في الشئون التي تتوحد في الدولة، وهي شئون الدفاع والسياسة الخارجية وتدبير العملة، وأن تسأل الوزارة أمام الهيئة النيابية في العاصمة، ويختار كل إقليم هيئته النيابية التي تراقب حكومته، وسيحرص الدستور على تمثيل المصالح في جميع الطبقات، وينص على تخصيص الدوائر لتمثيل الصناعة، والزراعة، والتجارة، والعمال، ومعاهد التعليم العليا، ويعطي المنبوذين من البرهميين الذين فضلوا الإقامة في الباكستان على الهجرة إلى الهند حقا يخولهم أن ينفردوا بانتخاب ممثليهم، وكذلك يعطي هذا الحق للمسيحيين حيث يكمل لهم عدد يستقل بالانتخاب.

والعصبة الإسلامية اليوم هي الجماعة السياسية التي تتمثل فيها آراء القادة في الباكستان، ولكنها لا تتألف من حزب واحد في مذاهب السياسة والاجتماع؛ إذ يوجد فيها غلاة الاشتراكيين كما يوجد فيها غلاة المحافظين، ويوجد فيها من يحاربون رأس المال ومن يؤيدونه ويستديمونه، ويوجد فيها على الأغلب الأعم من يرون أن الإسلام طريق ثالث بين طريق رأس المال وطريق الشيوعية، ويمكن أن يقال إن العصبة الإسلامية تعبر عن مبادئ المؤمنين بقيام دولة الباكستان، خلافا لمن كانوا يعارضون قيامها ويتخذون لهم وجهة غير وجهتها، ولهذا تعتبر العصبة أن من يعارضونها من خارجها معارضون لتكوين الدولة في أساسها، وتسمح بالمعارضة في داخلها ولا تسمح بالمعارضة من خارجها، ونحسب أن الحذر من هذه المعارضة في دور التكوين وشيك أن يتسهل بعد تصعيب، وأن يكون زواله علامة على زوال الخطر على كيان الدولة وسلامة المجتمع، فلا تصبح معارضة العصبة معارضة للدولة والأمة، ولا تحتاج أحزاب السياسة إلى رقابة غير رقابة الرأي العام. •••

ليس في وسع منصف أن ينظر إلى العمل الرائع الذي تم في هذه الدولة الناشئة خلال خمس سنوات بغير نظرات الإكبار، وليس في وسع منصف أن ينكر عليهم صدقهم واقتدارهم وحسن تصريفهم للأمور التي تجل أحيانا وتدق أحيانا عن التصريف، وليس في وسع منصف أن يضن عليهم بالمعاذير فيما عرض لهم من النقص وتورطوا فيه من الأخطاء، وليس في وسع منصف أن ينفي عنهم كل نقص ويعصمهم من كل خطأ، فمن يتكلم عن العصمة لا يتكلم عن إنسان.

إلا أن الشهادة التي هي أعظم وأشرف من كل شهادة لهؤلاء القادة هي التعالي عن استغلال الغرائز الثائرة؛ تمكينا لأنفسهم في مناصب الحكم، وتمهيدا للبقاء فيها وتغشية لأعين الجماهير عن التنبه لما يقعون فيه من الأخطاء، ويؤخذ عليهم من العيوب.

ففي مثل هذا الموقف، بل في أهون من هذا الموقف، يندر أن نرى زعيما يتعفف عن كسب «الحماسة الشعبية» له ولسلطانه بإذكاء الضغينة وإثارة العصبية، وتغذية الكراهية بين الطوائف والأقوام بكل ما يلعج الخواطر ويلهب النفوس، ويفتح آذانها كل يوم لما يلقيه في روعها، ويغلق آذانها كل يوم عن سماع الحق والإصغاء إلى النقد الصحيح.

رأينا هذا في دولة النازيين، وفي دولة الفاشيين، وفي دولة الشيوعيين، ورأينا زعماء هذه الدعوات يحرضون طائفة على طائفة، وحزبا على حزب، وجيلا على جيل، بل رأيناهم يحرضون أقوامهم على العالم بأسره مصوريه لهم في صورة العدو الذي يتحفز لهم ويتربص بهم، ويتحين الفرص للانقضاض عليهم، ولا يبالون ما وراء هذا الغل الدفين من شر يحيق بهم وبمن حولهم، ولا يسلم منه قريب ولا بعيد.

فمن الشهادة العالية لقادة الباكستان أنهم تغلبوا على هذا الإغراء مع وفرة المغريات وكثرة العداوات، وأنهم لم يتعففوا عن إثارة الغرائز وكفى، بل عقدوا العزائم على تصفية القلوب وغسل الصدور ومحو الترات، وجعلوا هجيراهم أن يقربوا بين المفترقين ويفثأوا سورة الغاضبين، واستهدفوا من جراء ذلك للغيلة والإيذاء، ممن حسبوا طيشا منهم وجهالة أن حسم العداء والبغضاء ممالأة للأعداء.

صفحه نامشخص