ثم سار مطرقا وسار القوم في إثره أجمعين، وقد تمثلت على وجوههم عزيمة الجد وطلب الثأر.
الفصل التاسع
كانت حربا عنيفة ليس فيها بقيا ولا هوادة. كانت تغلب تتعقب شيبان أينما تحل، لا تترك لها متنفسا من الراحة، فإذا انتهت من وقعة وانحازت شيبان إلى منزل بعيد لتداوي جراحها وتصلح سلاحها، وتجم خيولها، فاجأها بنو عمها قبل أن تطمئن في مقامها الجديد، فيوقعون فيها وقعة جديدة أشد عليها وأنكأ لجراحها. وكان المهلهل لا يفتأ يذكر أخاه في ليله ونهاره، ويبكيه في شعره، فلا يكاد قومه يعودون من القتال حتى يذمرهم ويحرضهم، فيثبون معه إلى حيث يمضي بهم. وقد أسلموه قيادهم واتبعوه، لا يجادلونه في رأي ولا يعصونه في أمر؛ فقد وجدوا فيه قائدهم الذي يسبقهم إلى الصدر، ويفرق لهم صفوف العدو؛ يضرب حانقا، ويندفع في غمار الجموع ثائرا، يطحن ويمزق ولا تزيد أحقاده مع تمادي الحرب إلا اشتعالا. وألفت تغلب القتال حتى كأنهم يجدون المتعة في مناظر الدماء وضجيج الهيجاء.
وتزحزحت شيبان عن منازل اليمن إلى اليمامة، ثم تزحزحت حتى بلغت أطراف القفر، تلتمس النجاة من العدو الملح، لعل المهلهل يخشع عنها بعد أن نال منها ما نال في وقعاته العنيفة. وحسبت أنه يستوحش من تلك الفلوات، فلجأت إليها على ما تتجشم فيه من قسوة الحياة.
ولكنها لم تلبث أن سمعت أن عدوها لا يزال يزحف إليها، ويخترق في سبيله الفدافد الوعرة التي ظنوها تحميهم وراءها.
وكان يوما شديد الحر من أيام الصيف عندما سمع مرة شيخ بني شيبان أن المهلهل قادم في غزوة جديدة مغيرا بقومه تغلب وحلفائه من قبائل بكر والنمر بن قاسط. وكان بنو شيبان عند ذلك نازلين بآخر منزل حلوا فيه بعد هزائمهم المتكررة، فضربوا خيامهم عند عين واردات في أطراف اليمامة، بعد أن هجروا رياض نجد وأوديتها الخصيبة منذ غلبهم عليها بنو عمهم في الوقائع الماضية؛ وقائع النهي وعنيزة والذنائب. وكانوا لا يجدون في وادي واردات إلا أقل المراعي كلأ، وأشح العيون ماء، وأشد البلاد حرا وإقفارا، ولكنهم كانوا لا يزالون يأبون النزول على حكم عدوهم، وإن كان عددهم قد صار إلى القلة، واضمحل أمرهم وضاعت أموالهم في حروب تلك السنين الطويلة.
ووقع نبأ الغارة الجديدة على الشيخ مرة وقع الصاعقة؛ لأنه كان يعرف قلة عدد فرسان قومه، وكثرة المتألبين عليهم من فرسان القبائل الأخرى. وزاد في شدة الأمر عليه أن سنوات الحرب كانت سنوات جدب ذهبت بأكثر الأموال، وأن السماء لم تسعف الشتاء المنصرم بما يحيي المراعي ويسمن البهم ويدر الألبان. وجعل يقلب وجوه الرأي فيما هو صانع في تلك الغارة؛ أيقف مرة أخرى لعدوه القوي، أم يستعد للنزوح إلى فيافي الدهناء المخيفة؟ وفيما هو في ذلك الهم الشاغل أقبل عليه ولده جساس مسرعا، فرفع الشيخ بصره إليه صامتا وهو يعبث بلحيته البيضاء بأصابعه النحيلة في شيء من الاضطراب. فوقف جساس لحظة ينظر نحوه وقد امتلأ قلبه شفقة على ذلك الشيخ المتهدم، الذي ما زال يحمل هموم قومه تلك السنين الطويلة بما فيها من الهزائم والمحن، وكان يحس بجريمته، إذ كان السبب في إثارة تلك الفتن وإنزال تلك الكوارث بقومه. واقترب من الشيخ فجلس القرفصاء إلى جواره، وقال بصوت خافت فيه رنة الرحمة: «أبي!»
فلم يرد الشيخ أن يظهر شيئا مما كان في نفسه من الهم، فأسرع مجيبا في هدوء: «لعلك قد علمت بنبأ تحرك القوم نحونا يا جساس.»
فقال جساس بصوت متردد: «هذا ما جئت أحدثك فيه.»
ومضت لحظة قصيرة عليهما في صمت، ثم قال جساس: «لقد رأيت يا أبي ما جلبت على قومي من المصائب، وقد بدا لي اليوم عظم جرمي عليكم وشناعة مضرتي لكم؛ كنت شابا نزقا لم أعرف مغبة عملي وعاقبة تهوري، حتى مرت بنا هذه الأحداث وتطاولت علينا مدة الحرب هذه السنين، فعلمت الحق بعد أن تفلت الأمر من الأيدي ، ورأيت أنني كنت كما وصفتني يوم قتلت كليبا، جانيا مشئوما منكودا. علمت أنني لم أحرز لقومي عزة بقتل كليب، بل أذهبت عنهم عزتهم، وفرقت كلمتهم وأفشيت فيهم الثكل والويل.»
صفحه نامشخص