ومضى بعد ذلك حين خرج فيه جماعة يتلقون الوفد، وبقي آخرون ينتظرون حتى أقبل الرسل وأناخوا إبلهم وأتوا إلى النادي، يحيط بهم جماعة الشبان ومعهم المهلهل مشرق الوجه متهللا.
ولما سلم القوم واطمأنوا في مجالسهم حول النار بين الكثبان قام أبو نويرة ببطء وهدوء، وقال يخاطب كبير الوفد الحارث بن حي: إذا صدق الظن وأصاب الحس؛ فقد عدتم من بكر بسيوف مصلتة ورماح مشرعة.
وساد الصمت لحظة، ثم رفع الحارث رأسه وتكلم بصوته العميق وهو مطرق فقال: سيعرفون غدا أنهم ظلموا وما عدلوا، وستقيم تغلب حقها على حد السيف، وتنال منهم بالقسر ما أبوا بالسلام.
فتحرك الشبان في مجالسهم قلقين، وهموا بالوثوب غاضبين، فقال أبو نويرة يخاطب الحارث: ألم تنصف بني عمك يا أبا حي؟
فقال الحارث في تردد: لقد أنصفنا بني عمنا فما أنصفوا، طلبنا إليهم أن يسلموا إلينا جساسا نقتله في كليب فنحقن بذلك بيننا الدماء، فقال أبوه مرة: «إنه ركب فرسه وضرب في الأرض وهم لا يدرون أي البلاد انطوت عليه.» فطلبنا إليهم أن يسلموا لنا أخاه هماما، فهو كفء كريم نقتله بقتيلنا، فقال مرة ساخرا: «إن هماما أبو عشيرة وعم عشيرة وأخو عشيرة، كلهم بطل فارس، ولن يسلموه لو أردت أن أدفعه إليكم لتقتلوه بجريرة غيره.» فقلنا للشيخ: «إذن فقد رضينا بك أنت لتكون مطفئا لثأرنا.» فقال الشيخ في عناد: «والله لا أسلم نفسي قبل أن أجول في الحرب جولة وأموت مناضلا.» ثم قال في كبرياء وغلظة: «ولكني أعرض عليكم غير هذا، أعطيكم ألف ناقة سود المقل لتكون دية كريمة لقتيلكم!»
وسكت الحارث لحظة وقد بدا على وجهه الغيظ، وانفجر الجلوس في غضبة واحدة، فلم يستقر أحد منهم جالسا، ولم يبق فيهم أحد صامتا.
وصاح المهلهل وقد كان إلى ذلك الوقت ساكنا: «وا كليباه! تقتل وأنت العزيز في ثأر ناقة عجفاء، ثم لا يبذل في دمك الغالي سوى الجزر. وا كليباه! هل كنت لتباع بالنياق ليشرب القوم ثمنك لبنا؟»
وعلت على أثر قوله ضجة تصم الآذان. وتصايح الشبان من جوانب النادي: «ويل لبكر! الحرب والفناء لبكر!»
ثم نظروا إلى المهلهل وقد علا وجهه بريق الانتصار، فقام ليتكلم، واتجهت إليه الأنظار فقال: «لقد علمتم أن كليبا كان لكم عزا ومجدا، به سدنا وبسيفه انتصرنا وعلت كلمتنا، ولقد أكل الحسد قلوب أعدائكم فلم يجدوا لكم رزءا أشد عليكم من فقد كليب، ولم يعرفوا جرحا أوجع فيكم من طعنة فؤاده، فهم إذا أصابوه لم يقصدوا إلا مجدكم، ولم يطمعوا من وراء مقتله إلا أن يسودوكم. فوحق مناة وأوال ، وحق السيف والرمح، وحق المصاب الفاجع، والظلم الموجع لنأخذن بثأر كليب حتى لا يبقى في بكر موضع ثأر، ولنأخذن بحقه كاملا، حتى لا يبقى عضو منه أو جارحة لا نثأر لها، بل لنأخذن بثأر الشسع الذي كان يربط به نعله، نقتل به عزيزا منهم وسريا من سراتهم.»
وكان الغضب قد بلغ منه عند ذلك مبلغ التوقد، فاحمر وجهه وتقبض، ولمعت عيناه لمعانا وحشيا، وتصلبت أعضاؤه وهو يشير بيده مهددا. وسرت عدوى غضبه إلى الحاضرين، فلاحت على وجوههم علائم الثورة، واكتست جباههم بظلال الدماء، ونظروا إليه وقد ملأهم العجب أن يكون هذا الثائر المتوثب عدي بن ربيعة «المهلهل»، الذي كان لا يعرف إلا الخمر والتغني بالنساء.
صفحه نامشخص