وأصبح الصباح عليها وقد أدركت القوم، وسارت معهم في غمرة من حزنها، وحث الركب المطي يطلبون أرض اليمن ليمتنعوا بها، ويعتصموا في جبالها من تغلب قوم كليب.
الفصل الثامن
اجتمع بنو تغلب في ناديهم، وقد أقبل الليل وأخذ البرد يشتد ويقسو. وكانت النيران الموقدة في وسط الفضاء ترسل ضوءها على الوجوه، وتتلاعب فوقها في خفوت، وتمتزج بالظلال فتبدو الملامح فيها غامضة مبهمة. وكانت ظلال الأشخاص تتراقص على جوانب الكثبان المحيطة بالفضاء، كأنها أشباح متحركة من الجان، تخلع على المجتمع رهبة شاملة.
وكان القوم في اجتماعهم قلقين لا يستقر بهم حديث ولا ينظمهم رأي، بل كانوا متفرقين في حلقات متباعدة، وقد مالت كل جماعة إلى ناحية تتناجى في حيرة وحنق، وتهب فيهم بين حين وآخر عاصفة من الهياج، فيعلو ضجيجهم ويحتدم جدلهم ثم يعودون بعد حين إلى التناجي القلق الحانق والمحاورة المضطربة.
كانوا في ذلك الاجتماع ينتظرون عودة رسلهم الذين ذهبوا وراء بني عمهم بني بكر ليفاوضوهم في تدارك الأمر ومداواة الجرح الذي أصابهم بقتل كليب، قبل أن يسيروا إليهم بطلب الثأر. وكان يظهر من حديثهم المضطرب أنهم لم يكونوا متفقين على رأي، ولا متحدين في غاية؛ فكانت فيهم طائفة غير راضية بالانتظار تنكر إرسال الوفد لمفاوضة العدو، وتأبى إلا المبادرة إلى القتال في طلب الثأر، لا ترضى بهوادة ولا مسالمة. على حين كانت طائفة أخرى تشفق من الحرب وويلاتها، وتنادي بالأناة والصبر مؤملة أن ينزل بنو عمهم البكريون على حكم العدل والإنصاف، فيجيبوا إلى ترضية شريفة تطمئن لها نفوسهم، وتقنع بها كرامتهم.
وكانت هذه الطائفة تظهر في جدالها الحانق أنها لا تريد الحرب أنفة من زعامة ذلك السكير الماجن، عدي بن ربيعة «المهلهل»، ذلك الذي عرفته تغلب كلها، لا يقطع يومه إلا على نوم من أثر الخمر والنساء، ولا يقطع ليله إلا على مجلس للخمر والنساء. فهل كان مثل هذا الخليع ليخلف كليبا على زعامتهم؟ وهل كانوا ليلقوا قيادهم إلى ذلك الشاب المعجب بجماله، التياه في نعيمه، الذي لا يحسن إلا المناغاة والتغني، والذي جعل وكده المنادمة والغزل؟ هل كانوا ليأتمنوا مثل ذلك الشاب الداعر على عز تغلب ومجدها؟
وكان في صدر النادي فارس تغلب أبو نويرة، يجلس محتبيا بسيفه، وتكاد لحيته السوداء تلمس ركبتيه وهو مطرق لا يلتفت إلى من كانوا حوله، وكان ضوء النار الملتهبة يقع على وجهه فتظهر فيه أخاديده وندوبه سوداء تكاد تملأ صفحته، وكان يسمع ما يتقاذف به الشبان والشيوخ من عبارات المجادلة، وهو يتغطرش فلا يدخل في شيء من أحاديثهم الحانقة.
كان أبو نويرة يفكر عند ذلك حزينا فيما تئول إليه أمور تغلب إذا هي تعجلت الحرب، فإنه لم يكن إلا أبا عشيرة بين العشائر، لا يستطيع أن يقود عشيرته إلى الحرب وحدها. وقد علم أن تغلب قد انفرط عقدها فلا تستطيع أن تجتمع على واحد من فرسانها، ولم يجد حوله من شبان تغلب أو كهولها من يستطيع أن يلم الشمل حوله، ويقود قومه جميعا إلى النصر.
كانت تغلب قد استنامت إلى بطولة أميرها وسيدها كليب بن ربيعة الذي فجعوا فيه منذ يوم، وكان كليب مستأثرا بالزعامة والقيادة والبطولة، فلم يدع لغيره مجالا إلى جواره. كانت تغلب كلها رعية له تطيعه إذا أمر، وتسير وراءه إذا سار، وتتجه معه حيثما أشار، فلم ينبغ فيهم من تعود الأمر والقيادة، ولم يعتد الناس أن يلتفوا حول أحد من رؤسائهم، إذ كان كليب لا يدع لأحد منهم رياسة ولا سلطانا ولا جاها. كان يستأثر بالسلطان كله في غيرة؛ فلا يرى أحدا من فرسان قومه يرفع رأسه إلى زعامة حتى يبطش به ويذله وينزع منه كل مطمع فيها. فلم يكن في عشيرة كليب من هو جدير بأن يقود الناس في تلك الأزمة الشديدة. لم يكن له ولد، ولم يكن في إخوته من يستطيع أن يسد مسده، فهذا هو أخوه عدي المهلهل لا يقطع أيامه ولياليه إلا على مواعيد في مجالس اللهو والشراب. وماذا يستطيع مثل المهلهل الماجن أن يصنع إذا الحرب شمرت عن ساقها، وفتحت أفواه الموت لفرسانها؟
كان أبو نويرة يفكر حزينا في مصير تغلب. وما كان له أن يسارع إلى حرب لم يكن قومه مستعدين لها، وكان يرى أن الحرب إذا وقعت لم تلبث أن تكشف عن تغلب سر العز الزائف الذي أسبله عليها بطلها. كان الحزن يأخذ على أبي نويرة أسباب التفكير وهو جالس في صدر النادي ينتظر عودة الرسل الذين ذهبوا لمفاوضة بني بكر في مصالحة بني عمهم وإرضائهم في مقتل سيدهم.
صفحه نامشخص