محالفه سهگانه
المحالفة الثلاثية في المملكة الحيوانية
ژانرها
تقدمة
1 - الحصان في الإسطبل
2 - المأدبة
3 - المحالفة
4 - المحالفة: تتمة
5 - المحاكمة
6 - فلتكمل مشيئة الله
تقدمة
1 - الحصان في الإسطبل
2 - المأدبة
صفحه نامشخص
3 - المحالفة
4 - المحالفة: تتمة
5 - المحاكمة
6 - فلتكمل مشيئة الله
المحالفة الثلاثية في المملكة الحيوانية
المحالفة الثلاثية في المملكة الحيوانية
تأليف
أمين الريحاني
تقدمة
من العادات المألوفة بين كتاب الإفرنج أن يهدي الكاتب كتابه إلى صديق صدوق، أو نسيب مفضل، أو وجيه محسن إلى الهيئة الاجتماعية، وهديته على كل حال تكون عبارة عن حب مجرد ليس وراءها غاية شخصية دنيئة، بل تكون إقرارا بجميل المحسن؛ إقرارا لا إكراه فيه ولا مأربة.
صفحه نامشخص
وقد اقتفى الكاتب العربي العصري أثر الكاتب الإفرنجي، فصارت المؤلفات والكتب العربية الحديثة تقدم بهيئات مختلفة تتم بها كل شروط التقدمة الإفرنجية ما عدا شرطا واحدا، وا أسفاه إن الغاية الحميدة والمحبة المجردة لم تطيبا بعرفهما الذكي تقدماتنا المملوءة بالتزلف والتبجيل والمداهنة؛ سيئات لا يولدها إلا صغر النفس والجبانة.
الكاتب الإفرنجي يهدي كتابه ليشكر من هو بالشكر أولى، والكاتب العربي - ونقول ذلك آسفين - يهدي ليتزلف إلى هذا، ويستجدي ذاك، ومنهم من يقبض أجرته سلفا، ومنهم من يقبضها بعد أن يطبع مديحه الكاذب، ويعسر علينا أن نجد لنفسنا مكانا في إحدى هاتين الطبقتين؛ إذ إنه في الزمان الحاضر، وفي البلاد التي نحن فيها (أميركا) لا يقدر الكاتب السوري أن يقدم كتابه إلى أحد دون أن تولد تقدمته هذه في نفس المقدمة له ظنا سيئا في المؤلف، فكل من قدم له كتاب من وجهاء السوريين يظن أن الفرض الرئيسي الذي تفرضه عليه آداب الهيئة الاجتماعية، وقوانين الكرم هو أن يحسن على الكاتب المسكين بصلة ما أو بقيمة من المال. وليس كل كاتب حليف الفاقة، ولا كل من أهدى كتابه مستجديا.
بين سوريي أميركا لا يوجد على علمنا محسن عمومي لتزين هذه الصفحات باسمه، ونوشيها بذكر مآثره.
نعم عندنا عدد وافر من الوجهاء والأدباء والصحافيين، والكتاب والخوارنة، والتجار والأطباء، غير أنه ليس فيهم بحكمنا من هو أعظم أم أحقر من الثاني، فكلهم أفاضل أريحيون، وأدباء متفننون، وتجار مستقيمون ، وصحافيون ماهرون، كلهم متساوون بالمجد والعظمة والكرامة.
ولهذا السبب نقدم هذه القصة إلى من يريد أن يقرأها منهم.
ولا تظن أيها القارئ أن التقدمة الصغيرة هذه هي مجانية، كلا فالذي يتمم الشروط الآتية يقدر أن يقول: إن القصة قدمت له، والذي لا يتممها ويظنها مقدمة له يكون قد سرق من المؤلف ما يجب أن يرد إليه، أما الشروط فهي:
أولا:
يجب أن تقرأ بتمعن وتبصر.
ثانيا:
يجب أن تقرأ لا لكي تصدق أو تكذب، ولا لكي تثني أو تنتقد، اقرأ لتقيس وتقابل وتفتكر وتحكم.
صفحه نامشخص
ثالثا:
يجب أن تطرد من فكرك كل تعصب ديني غير ناظر إلى شخصية الكاتب، علاقتك هي مع القصة وليست مع مؤلفها.
رابعا:
لا تكتف بفحص الثوب من الخارج، اقلبه وانظر إلى البطانة؛ فقد جعلنا لجسم هذه القصة الإنساني غشاء حيوانيا يتضمن من الدقة المقصودة، وجراثيم الإصلاح المطلوبة ما يصعب على القارئ تمييزه دون عدسية مكبرة، فعليك إذن أن تحمل آلات التشريح، والعدسية المكبرة وتتبعني.
خامسا:
يختلف التشريح عن التقطيع، وليس بري الأقلام كقطع الأشجار، فكن مدققا في العمل محققا في التمييز والمقابلة؛ فتعدل إذ ذاك بحكمك.
سادسا:
إذا لم توافق القصة ذوقك السليم، أو لم تطابق عقيدتك المحبوبة، أو لم ترق لك لهجتها ومغزاها، فادفعها إلى جارك ولا تحرقها؛ فلربما كان الطعام ساما لمعدة ما، ومغذيا لأخرى.
هذه هي الشروط التي يجب أن يتممها كل مطالع قبل أن يعتبر القصة تقدمة له، وإذا أخل بواحد أو أكثر منها يكون قد سرق منا ما يجب أن يرد إلينا.
الفصل الأول
صفحه نامشخص
الحصان في الإسطبل
الحصان يناجي ذاته: «أجل قد خسف بدر مجدنا اللامع، وأفل كوكب سلطتنا الساطع، وسدت علينا أبواب الارتزاق، فسرنا لغايتنا في ميدان الخباثة والنفاق تحت ظل الانقسام والبغض والشقاق. وألانا الزمان فاستبدينا، ووافقنا القدر فسطونا، ولكن أين تلك السطوة وذلك السؤدد الآن بعد أن داس على هامتنا القدر، وأذلنا بؤس الزمان، نعم نحن المذنبون، قد جنينا على أنفسنا، فما نتيجة المخاتلة والاستبداد إلا جر غضب العاقلين من العباد علينا، فقد ذقنا من السلطة أعذبها، ومن الرئاسة أطيبها، غير أننا والحق يقال أسأنا استخدام السلطة، وأفسدنا الرئاسة، فما لنا إلا أن نحتمل نتيجة أفعالنا، ونكتفي بما تحقق من آمالنا، قد سلط الله الإنسان على الحيوان، ونحن قد خالفنا الإرادة الإلهية فتسلطنا على الإنسان بالدهاء والرياء والاحتيال، نعم قد حكمنا زمنا ليس بقليل، ولم نزل الحاكمين الآمرين مع قليل من المقاومة، ولكني أرى أن الأخطار محدقة بنا، والإنسان يئن ويتأوه من الأعباء التي وضعناها على منكبيه ألا يخشى علينا من الثورة، فبأي سلاح نحارب الإنسان إذا ثار علينا لينزع عنا سلطتنا؟ يجب أن نفتكر في حالتنا الحاضرة، يجب أن نستعد للقتال، فدلائل الانقلاب ظاهرة في كل دوائر المملكة البشرية، والإنسان بغنى عن خدماتنا الآن؛ فعنده الآلات الكهربائية والبخارية والهوائية لتقضي حاجاته، وتجعل حياته على الأرض كثيرة السرور، قليلة المشقة.
إن هذه الاختراعات الجديدة ضربة قاضية علينا، وكل مظهر من مظاهر هذا التمدن الحديث يضر بمصالحنا، ويحط من مقامنا، قد أمست سلطتنا الآن ترسا للدفاع بعد أن كانت حساما للهجوم، قد سلبتنا الكهربائية حقوقنا، وتعدى البخار على مصلحتنا، ودخل الهواء بيوتنا الفارغة؛ فصار يخشى عليها من التدعي، أما والحق فهذا انقلاب سريع عظيم، نحن الآن على شفير الهاوية، أمامنا الظلمة الغير المتناهية، والعمق الذي لا يحد، ووراءنا جحافل الكهربائية والبخار والهواء، ليس هذا فقط؛ فالأخطار التي تحيق بنا من الخارج ليست بشيء عند الأخطار التي تتهددنا في الداخل، ألم يلتئم معشر الخيل في مجمع عظيم منذ شهر ليتفاوضوا في الشرائع، والسنن المؤسسة عليها جامعتنا، ويحكموا على صحتها، وخلوها من الأغلاط؟ أهذا الذي اتصلنا إليه؟ إذا نحن شككنا في صحة شرائعنا، فماذا يفعل المؤمنون؟ والغريب أننا ابتدأنا في الشك والريب، فالمجمع المنكود الحظ حكم بعد الجدال والبحث والمناقشة على الناموس الذي نمشي بموجبه بالإعدام، يقول المجلس الموقر: إن شرائعنا لم تنشأ عن حكمة معصومة عن الغلط، وإن الطريق التي سلكناها في الماضي تؤدي إلى هلاكنا في المستقبل القريب.
عقول مختلة في رءوس كبيرة، جياد سقيمة تطلب الشهرة بتكسير أواني إسطبلها، منذ مدة وجيزة أخذ أحد الجياد الكبيرة الذي يحسد الأطيار على عشاشها أن يستهزئ ببعض الأساطير التي نحترمها، ويعز علينا أن تمتهن، هذه هي حالتنا الآن؛ الأخطار من الداخل والخارج، الجياد المعتلة تلبط وتحرن ونحن المحافظين ساكتون عنهم. نعم، إن المخاطر تحت أقدامنا وفوق رءوسنا، فما العمل وكيف نتقيها؟ نهار البارح تخرج من إحدى الشركات الكبيرة خمسمائة جواد متحلين بحلى الآداب، جياد ذوو أجسام وعقول سليمة قوية، ولكن لا شغل لهم في المدن الكبيرة، ولا يحتاج أحد من المتمدنين في هذا الجيل إلى خدماتهم، وزد على ذلك أن في الأسبوع الماضي أخرجت إحدى الشركات الترامواي ألف جواد من خدمتها، واستخدمت عوضهم قوتي الكهربائية والبخار، وهذا سجل جمعيتنا، ينبئنا - ويا له من نبأ مؤلم - بأن في صفوفنا يوجد الآن خمسة آلاف جواد لا شغل ولا عمل لهم. وإذا لم نعلفهم يموتون، فمن أين لنا أن نعلفهم وهم لا يحركون ساكنا، ولا يدخلون بارة الفرد؟ فيا لتعاسة الخيل، إن قوتهم تتلاشى يوما فيوما، إن سلطتهم على وشك الاضمحلال، وا أسفاه قد اندثر عزنا، وبليت حلة بهائنا، ودرست معهما معاقل مجدنا، وا أسفاه على الزمان الماضي؛ يوم كنا نقود الشعب في عرباتنا المقدسة إلى حيث نشأ، كنا في ذلك الزمان نحرن ونتمرد، ونشمخ ونهمهم، وما لنا الآن إلا أن نطيع صاغرين، مفتشين على مصلحة نستر بها عرينا، ونسد رمقنا، يا ليتك لم تكوني أيتها الكهربائية، ويا ليت مخترع الأوتوموبيل لم يولد، ليس الملك الظالم من أمر بقتل من خالفه، بل هو ذلك المتفلسف العالم الذي لا يتنفس إلا ليضر، ولا يفتكر إلا ليفسد، ولا يتحرك إلا ليسد بوجوهنا أبواب الارتزاق. ما بال الفوضويين من البشر لا يريحوننا من ملوك العلم، وأرباب الاختراع الذين يقصدون إبادة جنسنا عن آخره؟ ما لك وهمبرت أيها الفوضوي؟ ماذا ينفع قتل ماكنلي؟ دونك وإديسون أو تسلا، جرد سيفك على ماركوني، أو سبنسر، أو برتلو، هؤلاء هم أعداء العالم بأسره، هم هم الظالمون المستبدون الأشرار الذين يدسون في مملكتي البشر والحيوان سموم علومهم واختراعاتهم، اصرف عنا أيها الأسد العظيم كيد المتفلسفين من البشر، نجنا من دسائس شياطين الاختراعات، خلص عبيدك وخادميك من العناصر القتالة التي إذا أضاءت أحرقت، وإذا تحركت قتلت».
وبعد أن انتهى الحصان من هذه المناجاة المؤلمة وضع رأسه بين قائمتيه، وغاص في بحر الهواجس والأفكار، ثم نهض بغتة، وصرخ صرخة عظيمة ليست صرخة أركيميدوس الإسكندري في حمامه بشيء بالنسبة إليها. «نعم نعم! قد اكتشفت على سبب تقهقرنا، قد عرفت سبب تقدم أعدائنا ونجاحهم، الاتحاد؛ الاتحاد؛ جمع الكلمة، وحدة الرأي، إزالة الاختلافات، وقتل الشقاقات. نعم يجب أن نتحد، فالحمير لا يعضدون البغال، والبغال لا يتحدون مع الخيل، والخيل لا تتقرب إلى فريق منهما. لماذا هذا التنافر؟ لماذا هذا البغض وهذه الضغينة؟ كلنا من طائفة واحدة تربطنا صلة القرابة، فلماذا إذن لا نتحد ونجمع قوانا المالية والعقلية والعلمية؟ فنقوى إذ ذاك على كل عساكر الشر والفساد والفلسفة فنسحقها سحقا، ونحطمها تحطيما. نعم يجب أن نحسم الخلاف ونرتق الفتق، ونجمع القلوب ونتكاتف ونتحد، ولكن من ذا الذي يتجاسر أن يتظاهر بهذه الدعوى؟ ألم يحرم حصان أميركي من جامعته الخصوصية لأنه تظاهر بمبادئ شاملة، فخرج من كرسي سلطته ذليلا حقيرا. ألا تتساقط علي المسبات كالأمطار يوم أعلن للحيوانات دعوتي؟ ألا أطرد من جمعيتي؟ لا بأس فأنا أفضل أن أكون خارجا عنها، ومفيدا لطائفتنا الحيوانية بوجه العموم، سأجاهر بمبدئي وسأجمع في إسطبلي وجهاء الحمير والبغال سؤأدب لهم مأدبة فاخرة، سأتصل إلى عقولهم عن طريق بطونهم، سأعلفهم وأسقيهم وأوفر لهم انشراح الصدور، والانبساط بقدر ما يمكنني، ثم أعرض عليهم هذه المسألة، وأسألهم المساعدة، سأفعل ذلك حالا، سأفعله الآن».
فتقدم الحصان إلى باب الإسطبل ونادى الجحش كاتبه قائلا: «هات معك ورقا وقلما وحبرا، وتعال مسرعا». فجاء الجحش حاملا قلمه ومحبرته وأوراقه، وجلس على كرسي ينتظر أوامر مولاه، فأملى عليه الحصان ما يلي:
سيادة الراعي الصالح، والمرشد الفالح، والنزيه العظيم، والمنطقي الفهيم المفضال العلامة، والبحر الفهامة، الجزيل الفضل، الجليل القدر، الشريف الأصل، النافذ الأمر، أطال الأسد العظيم وجوده لنستفيد من علمه، ونهتدي بإرشاداته، آمين.
تجعلني سعيدا إذا شرفت إسطبلي مساء غد لتناول الغذاء معي، وهناك أمور خطيرة تستوجب المخابرة؛ إذ إن فيها صيانة حياتنا، وحفظ سلطتنا، واقبل أيها الأخ المكرم تأكيدات ولائي، وعلى أمل اكتمال سروري بوجودكم أمحضكم الشكر الجزيل.
أخوكم في الحيوانية
الحصان
صفحه نامشخص
أرني ما كتبت، وأخذ الحصان النسخة من الجحش وقرأها، ثم قال: ألم أقل لك: «واقبل أيها الأخ المحترم» فلماذا كتبت عوضها: «الأخ المكرم» ألا تعلم بأن هذا النعت يعد شتيمة بين معشر البغال والخيل والحمير؟
الحصان في مكتبه.
الجحش :
أليس لفظة مكرم اسم مفعول من كرم يكرم، ألا تعني هذه اللفظة التوقير والاعتبار؟ فهل نكون شتمنا الحمار إذا نعتناه بالمكرم؟ هل لك أن تفهمني الفرق بين اللفظتين إذا لم أكن مصيبا بما قلته.
الحصان :
أنت مخطئ؛ فالفرق بين المكرم والمحترم هو أن الأول بعيد عن الهوان والذل والاحتقار واللؤم، والثاني قريب من الغيرة والمجد والاعتبار والأبوة.
الجحش :
أما والأسد فأنا لا أرى فرقا قط بين الاثنين، فمن كان بعيدا عن اللؤم يكون بالطبع قريبا من الأبوة، ومن كان قريبا من المجد يكون بعيدا عن الذل والهوان، أفلا يكون للفظتين نفس المعنى؟ لا يا سيدي أنا لا أظن أن في نعتنا الحمار بالمكرم شتيمة له، وعندي أن لفظة مكرم هي أعذب من لفظة محترم؛ لأن الأولى لا تقدر تصوغ منها إلا كلمات حسنة مثلها، والثانية يشتق منها الحرام والحرامي، والمحرم والحرم ... إلخ.
الحصان :
قد سحمت لك أن تتفلسف، فغير الآن العبارة واكتب: «أيها الأخ المحترم» واذهب بالنسخة هذه إلى المطبعة، وأوص على طبع خمسمائة نسخة منها. ولما خرج الجحش من الإسطبل طفق الحصان يتمشى متهللا فرحا وهو يقول: «سيخلد ذكري بين الحيوانات، وسترتجف المملكة البشرية من قوتي إلى الممات، إن عملي هذا لعمل شريف، وإن كانت ضدي كل الغطاريف، لا أخاف ما زال معي الأسد القوي المخيف. نعم، إني على جانب عظيم من القوة والمكانة، فياللسرور، أي حظ وأي انتصار مبين، لا بد من أن أقول بعد هذه المأدبة قول الشاعر:
صفحه نامشخص
تم ما رمت والزمان وفى لي
وقد انجاب عن نهاري الضباب
نعم سنحطم القوات البخارية والآلات الكهربائية إذا تم ما أتمناه، فلنجمع قوتنا لنهلك من العالم كل مخترع لعين، وتصبح ظواهر التمدن الحديث لا أثر لها ولا عين؛ نحن ضد التمدن، نحن ضد الآلات الميكانيكية، والمراكب البخارية، والعربات الكهربائية، نحن ضد كل عقل يجهده صاحبه في إيجاد تسهيلات جديدة واختراعات مفيدة. يجب أن نضرب ضربة قاضية، كفانا ذلا وضعفا وفقرا وهوانا، كفانا خصاما وشقاقا واختلافا، كفانا نفورا وبغضاء ودسائس ووشايات. ضم الكلمة، جمع الرأي، اتحاد القلوب، تضافر الأفكار، قتل كل مسبب يولد النفور والشقاق. هذا ما تطلبه منا مصلحتنا، وتحثنا على إتمامه سلطتنا التي أوشكت أن تزول.
حبذا لو كانت الجلسة الآن وقريحتي جوادة؛ فيمكنني التكلم بفصاحة وحماسة وإخلاص، أف لم يعد لي صبر على الانتظار، ولكن لا بأس إذا درست قليلا، واستعديت لهذه الجلسة، يجب أن أستميل ضيوفي إلي، يجب أن أقنعهم لكي يعتنقوا مبدئي، يجب أن أبين لهم الحقائق الراهنة مدعومة بالبراهين الساطعة، «إلى الدرس إذن والتفتيش، فهذا عند الحصان العاقل أفضل من التبن والحشيش»، ويذهب الحصان إلى مكتبته، ويكب على المطالعة والكتابة.
الفصل الثاني
المأدبة
ولما تم طبع رقاع الدعوة وزعها الجحش على أصحابها الأفاضل، وفي مساء اليوم الثاني قبل أن جاءت الساعة الثامنة، غص الإسطبل بأفاضل البغال والحمير والجياد وهم لابسون أفخر العدد، وأثمن البردعات، من أقمشة سوداء وأرجوانية، وفي أعناقهم رشمات يتلألأ فيها عدد من الذخائر والتعاويذ، فتطقطق عند الحركة، ومنهم من جاء يعكز على عصا مذهبة، حاملا في خرجه لوح شريعته المقدسة، ثم جلسوا جميعهم حول مائدة جميلة مزينة على طرز بشري فيه كل أنواع الفخفخة، ويزيد رونقها أنواع الزهور المنثورة حولها، وحول الصحون المملوءة من الطعام على اختلاف ألوانه، واللحوم والأسماك على تعدد أجناسها، والخضر على تنوع أصنافها، وكلها مخلوطة ببعضها خلطا حماريا، وعلى وجهها غطاء أبيض مصنوع من البرشان. أما أصناف الخمر والمشروبات فحدث عنها ولا حرج، فبراميل الجعة كانت في ذلك المساء بعدد الضيوف، وكل واحد جلس وبرميله إلى جانبه، وأمامه إناء كبير من الفخار. - كلوا واشربوا وتهللوا فغدا تموتون.
وبعد أن جلس الكل حول معالفهم، وزالت الضوضاء، وساد النظام نهض صاحب الدعوة ورفع رأسه ويديه نحو السماء، وخاطب الأسد القدير خاشعا متوسلا فقال: نشكرك يا رب على غزير نعمك وآلائك، ونتضرع إليك بصوت خاشع كي تشمل بنظرك الإلهي جميع المؤمنين من أبنائك لا تحول عنا إلهامك الهادي إلى الرشاد، ولا تتخل عن المطيعين لنا ولك من العباد، انصرنا يا رب على القوات الشيطانية التي ظهرت في هذه الأيام الأخيرة، واسحق أعداءنا وأعداءك أهل التمدن الحديث، وذوي النفوس الحقيرة، كن لنا يا رب معينا، واصرف عنا غضبك، وارمقنا بحلمك، وشدد عزمنا، وثبتنا في مسالك الصلاح وطرق الهداية، آمين.
وبعد أن فرغ الحصان من صلواته هذه رفع حافره الأيمن، وقسم به الهواء إلى أربعة أقسام راسما بذلك رسم صليب كبير، ثم جلس على برميله بإزاء المعلف، ودعا ضيوفه إلى الأكل والشرب والانشراح. - كلوا واشربوا وتهللوا فغدا تموتون.
أحد البغال :
صفحه نامشخص
فلتحيا الفلسفة الأبكورية! صلى الأسد على أبيكاريوس وسلم!
الحصان :
لا تستحوا أيها الإخوة المحترمون، الإسطبل إسطبلكم، ولا تظنوا أنكم في بيت عدوكم، فكلنا نذكر أن الأسد له المجد دخل ما بين أعدائه، أما الفرق بينه وبينكم هو أن الأسد صلب وأنتم ستحيون حياة جديدة، أما الآن فلنأكل ولنشرب، فلنشرب على ذكر الحبيب، ولكن إياكم أن تسكروا. أهلا وسهلا بكم إن حاسياتي العميقة لا يعبر عنها بلغتنا الحيوانية، شرفتم أيها الحمير الكرام، آنستم أيها البغال الورعون العظام، لو كان لي صوت لطيف لكنت أنشدكم فأطربكم، أها. نعم، نعم، إن لكاتبي الجحش صوتا رخيما: يا جحش يا جحش، آتنا بعودك، وأطربنا بنشيدك.
فجاء الجحش مطيعا، وبيده عود مصنوع من الجلد، وأوتاره من الشعر، فجلس على سدة بالقرب من المائدة، وأخذ يلعب بالأوتار إلى أن عدل عوده، وصرخ منشدا: شرف القوم الكرام ... إلخ.
فطرب الحاضرون، وهاجت عواطفهم، فصرخوا جميعهم متهللين: كمان يا جحشنا كمان، بالله عليك منعاد، يا سلام ما حد سمع بعد. بعد. وغيره من عبارات الاستحسان، وصرخات السكران الولهان.
ولما سمع المغني هذه التصدية الجميلة لصوته الأجمل أخذ ثانية عوده الهندي، وطفق ينقل على أوتاره اللطيفة ريشته الرشيقة الخفيفة، وغنى على لحن وضعه أحد الغزلان في أبيات لجمال عربي:
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها
فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
فيا حبها زدني جوى كل ليلة
ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
صفحه نامشخص
وإني لتعروني لذكراك هزة
كما انتفض العصفور بلله القطر
هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى
وزرتك حتى قيل ليس له صبر
البغال (بصوت واحد) :
أما والأسد فهذا من أبدع ما غني وأنشد.
صاحب الدعوة :
زدنا بالله عليك يا جحشنا العزيز من غنائك المطرب المهيج، فعدل الجحش عوده ثالثة وتمتم بعض الأشعار، ثم غنى أبيات جمال آخر في بعض جواري الملوك المناذرة:
ولقد دخلت على فتاة
الخدر في اليوم المطير
صفحه نامشخص
فدفعتها فتدافعت
مشي القطاة إلى الغدير
فلثمتها فتنفست
كتنفس الظبي البهير
أحد الحمير :
أما والأسد العظيم فهذا لا يحتمل. تريد منا آه يا جحش كمان من دفعتها فتدافعت ولثمتها فتنفست، كمان كمان وأنت الآمر المطاع، أما الجحش فلم يسمع تضرعات الحمار، بل أتبع الأبيات لحنا من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، وغنى بيتين رقيقين لأحد جمالي الدولة الأموية:
ألا يا ظبية البلد
براني طول ذا الكمد
فردي يا معذبتي
فؤادي أو خذي جسدي
صفحه نامشخص
أحد البغال :
هذا يا جحشنا المطرب لمن أبدع الألحان وأعذبها، فقد أجدت في غنائك، وأحدثت طربا عظيما في نفوس أنسبائك، فاسمحوا لي يا أسيادي إذن أن أشرب نخب من إذا هز حلقه هز القلوب، أو حرك عنقه أزال الكروب، وأطلب إليكم أن تشاركوني بهذا النخب الواجب علينا شربه بعد طلب الإذن من صاحب الدعوة. إني أشرب وإياكم سر جحشنا المغني المطرب الذي لو وجد في دار ذاك الآدمي الذي يدعى الرشيد لما سمعنا بإبراهيم العظيم وإسحاق الفريد.
فلثمتها فتنفست
كتنفس الظبي البهير.
فوقف جميع الحاضرين ورفعوا كئوسهم إلى فوق رءوسهم، وشربوا نخب من أطربهم بألحانه العذبة الرقيقة، ولكن بين كل هؤلاء الحمير والبغال والجياد الواقفة كان يرى الناظر حيوانا صغيرا جالسا على برميله يتبسم ابتسامة الاستخفاف والتهكم، وهو الثعلب الذي دعي إلى الجلسة؛ لأنه صحافي ليذيع أعمال المجمع العظيم، ولكنه كبقية الثعالب المتفكرة أبى أن يشارك الجمع بنخب من إذا هز حلقه اهتزت له القلوب. وعمله هذا الشاذ أوقع الاستغراب والدهشة، لا بل الغيظ في قلوب بقية الحيوانات الذين أخذوا يتساءلون عن هذا العاصي، وعن سبب تصرفه السيئ، الخارج عن دائرة الأدب والاعتدال، والبعض من المتحمسين الحادي الطبع من الحمير لم يستطيعوا إخفاء ما داخلهم من الحنق والغضب، فأخذوا يتساءلون بصوت مرتفع: «من هو هذا الصعلوك؟» «من أين أتى؟» «ماذا يقصد هذا الثعلب الحقير بتصرفه المعوج؟» «أما والأسد فقد شتمنا، وشتم المغني أيضا»، «هل هو جلمود؟» «ألا يشعر بقوة الجمال؟» «ألا يعرف قيمة الصوت الرخيم؟» ... إلخ.
أحد البغال :
اطردوه من الإسطبل.
أحد الجياد :
نعم اطردوه. (فوقف إذ ذاك الثعلب على برميله، ونظر إلى الجمع نظرة المستعطف، وأنشدهم قول ذلك الشاعر العظيم الذي أراد من الزمن أن يبلغه ما ليس يبلغه في نفسه الزمن، قال):
يا ساقيي أخمر في كئوسكما
صفحه نامشخص
أم في كئوسكما هم وتسهيد
أصخرة أنا ما لي لا يحركني
هذا المدام ولا هذي الأغاريد
أحد البغال :
أنت بالحق صخرة، اصمت، اصمت إذن.
أحد الحمير :
اطردوه اطردوه لا تدعوه يتكلم.
الثعلب :
يا أسيادي الأفاضل، لو أذنتم لي بكلمتين لجاوبتكم على سؤالاتكم، وبينت لكم أسباب تصرفي الذي لم يصادف استحسانكم.
الجميع :
صفحه نامشخص
اصمت، اسكت، انزل عن برميلك.
الثعلب :
ألا يحق لي أن أتكلم كبقية الحاضرين وأنا مدعو لهذه الجلسة، هل يرضى صاحب الدعوة الفاضل عن إسكاتي وطردي؟ هل يرضى عن إهانة ضيوفه في إسطبله؟ هل من قوانين الاجتماعات وقواعد الأدب أن تقذفوا نحوي كل كلمة باطلة قبل أن تعرفوا غايتي وقصدي (هس هس هس اصمت فليسقط الثعلب اللعين) أعيروني أذنا مصغية، ولا تقلدوا الحيات بأصواتكم رشقتموني بسؤالات مهينة وقبلتها بقلب متواضع (هس هس) وأجاوبكم عليها دون أن أمس كرامتكم «من أنا؟» (هس هس)، «من أين أتيت؟» (هس هس)، «ماذا أقصد بتصرفي؟» اسمعوا وبعد ذلك اصفروا وهسهسوا، أنا يا أسيادي صحافي (هس هس بش بش) أجاهد وإياكم في سبيل الحق والحرية، أنا حيوان جئت من بين الحيوانات الضعيفة التي تنظر إليكم شزرا، وتكتم لكم الشر والعدوان، رسالتي في هذا العالم هي أن أوفق بينهم وبينكم، وغايتي القصوى أن أهذب الجهلاء في مملكتنا كي يقدروا تعاليمكم حق قدرها، وأن أنبهكم إلى هذه القوة العظيمة الكامنة الآن في بطن الجهل، فالاستبداد من جهة والجهل من جهة أخرى يولدان اضطرابا مستمرا، وقتالا متواصلا، أنا يا أسيادي ممثل التعاسة والاضطهاد، جئت لأشارككم في هذا المؤتمر؛ لعله يكون فيه فائدة لعالمنا، ولعله يرفع عن نفوسنا المضغوطة أثقال الظلم والجهل، ويتم فيه قتل التعصب الذي ينفث بيننا سم الشقاق والخصام، ولتكسر القيود التي تكبلت بها أقلامنا، قد جئت لأشارك في البحث عن أمر جليل، ولم أجئ لأسمع الغناء، وأشرب أسرار المغنين:
غير مجد في مذهبي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد
وخصوصا في مثل هذا الوقت، ففي ساعات الفراغ أسر بصوت رخيم وعود جميل، ولست كما تظنون جلمودا غير أني أعجب كيف أن أمرا طفيفا يحولكم عن مقصدكم، ويصير مؤتمركم هذا قهوة مصرية كيف أن صوت جحش ينسيكم نفوسكم، ويسلبكم عقولكم (قف قف هس هس)، لا تظنوا أني أنكر على الجحش فضله، لا والحق فإني أطرب بغنائه في غير هذا المقام، وأشرب نخبه في غير هذا الموقف فضلا عن أن الأشعار التي أنشدها فيها من التغزل وبذيء الكلام ما لا يليق بحضراتكم استماعه، ماذا يقول عنكم جمهور الحيوانات التي ترشدونها وتنهونها عما أنتم فاعلون الآن؟ ماذا تركتم لأولئك الحيوانات الذين يصلون ليلهم بنهارهم، منغمسين في التهتك، ومسترسلين في اللذات؟ وكيف نوفق بين تقواكم المعهودة، وتقشفكم الغير المحدود ، وبين أعمالكم هذه؟ كيف تسرون وتفرحون بغناء فيه هذه العبارات القبيحة، والتلميحات السفيهة: «ولقد دخلت على الفتاة، فدفعتها فتدافعت فلثمتها فتنفست»، يا أسيادي الأفاضل، عودوا إلى حكمتكم التي تركتموها في هذه الدقيقة، تأملوا في ما أنتم فاعلون، اذكروا أننا اجتمعنا لنتخابر بأمور خطيرة، فيها صيانة حياتنا، وحفظ مقامنا كما ذكر في رقعة الدعوة. لا تظنوا أنني أخالف لكي أعرف، كلا أنا أخالف الآن لأني لم أنس الغاية التي من أجلها اجتمعنا، فاعذروني إن كنت شديد اللهجة، إنما ذلك نتيجة غيرتي الحاضرة على أبناء جنسي، ولا أقول ذلك لأتهمكم ضمنا بالفتور وعدم الاكتراث، ولكن لما رأيتكم غارقين في بحور اللذات، ساهين لاهين خفت على مشروعكم من الانقلاب والفساد، فجئت منبها يا أسيادي لا منذرا ومذكرا لا متهددا.
وكان لكلام الثعلب في النهاية وقع حسن في صدور البغال والجياد، فندموا كلهم على ما فعلوا، وانقلبوا ببرهة من أعداء إلى أصدقاء للثعلب الذي كان كلامه قاضيا على السكر، وهوسة الغناء، فرماهم في لجج الهواجس والتفكر، حتى إن أكثرهم أفاقوا من غفلتهم، وأخذوا يبدون علائم الاستحسان، فالثعلب الذي ابتدأ يتكلم بين هسهسة المستهزئين فاز فوزا مبينا، وختم خطابه بين لبيط الاستحسان.
أحد الحمير :
أما والحق إن في كلامه زبدة.
أحد البغال :
صفحه نامشخص
إنه لعين الحق، فقد جئنا لنعقد مجلس إصلاح، وليس مجلس غناء.
أحد الجياد :
فليعش الثعلب إنه العاقل الوحيد فينا، يجب أن يترأس الجلسة، واجتمع حوله إذ ذاك عدد غفير من الحاضرين، وأخذوا يهنئونه على جرأته، ويثنون على أدبه، ويستغفرون منه لإهانتهم إياه قبل أن عرفوا عنه شيئا. (وبينما هم يهنئون الثعلب وقف أحد الحمير الشقر السكارى فهز أذنيه المنتصبتين، ولبط لبيطا قويا حتى استلفت إليه أنظار الحاضرين، ثم رفع كاس الجعة فوق رأسه، وقال):
وفي سكرة منها ولو عمر ساعة (هك)
ترى الدهر عبدا (هك) خاضعا ولك الحكم
فلا عيش في الدنيا لمن عاش صاحيا (هك)
ومن لم يمت سكرا بها فاته الحزم (هك)
ما بعرف يا إخواني منين جوني هالبيتين (هك)، ولكن منين ما كانوا مليح قد عبروا عن فكري (هك). إيش بيهمني أنا إن صار إصلاح (هك)، وإن ما صار، وإن تم اتحاد، وإن ما تم بدي أسمع غنا الجحش، وأنبسط (هك)، بدي آكل وأشرب وأفرح بركي بكره موت. (هك) فارتفعت عند هذا الكلام الضوضاء والهسهسة، وجاء من أربع زوايا الإسطبل صوت واحد يطلب إسقاط هذا الحمار السكران: اسكت واخرج من الإسطبل.
الحمار :
إوعا تصدقوا إني (هك) بسكت إلا ما يفتح تمه الجحش (هك)، وإوعا تصدقوا إني بخرج من الإسطبل إلا أنا وإياه (هك) أنتو كلكم مجانين، والثعلب (هك) اللي حكي بالأخير أكل دجاج كثير (هك)، أنا حيوان كلكم تعرفونني، حيوان عندي هلق، صوت طيب، وعود وكبايه، وما ناقصني غير (هك) ... ها ها ها، فلثمتها «فتنفست موش» هيك دخلك.
صفحه نامشخص
الجميع (بصوت حي) :
أخرجوه من الإسطبل، أخرجوه حالا، سفيه متهتك سكران أسقطوه عن البرميل! أخرجوه من الإسطبل.
فهجم إذ ذاك عليه أربعة من البغال الكبار، اثنان منهم قبضا على رجليه وذنبه، واثنان أمسكاه برأسه، وحملوه كلهم إلى باب الإسطبل، وهو يقول: تذكروا أنكم شحطوني (هك) من جمعيتكم، فلا تعتبوا علي إذا صرت جمل، ولفيت لفه خضرا ضراعين (هك)، بطلت كون (هك) حمار خليلكم هالفروه (هك) لا إله إلا الله، وبكره بتسمعوا (هك) عني في جرائد إسطنبول (هك)، هونيك بغني وبرقص، وبنبسط بين الحريم (هك)، وأجري بضهر الفلك (هلك)، أنتو صلحوا العالم، وخلصوا نفوس البشر (هك)، وأنا أجري (هك)، وكان قد وصل إلى الباب فرماه البغال خارجا، وأغلقوا باب الإسطبل، وأقفلوه كي لا يحاول الدخول ثانية.
الفصل الثالث
المحالفة
وبعد أن طرد الحمار السكران من الجلسة، وساد النظام انتصب الحصان صاحب الدعوة، وطفق يخطب في ضيوفه قائلا:
بسرور لا يحد أرحب بجمعيتي البغال والحمير اللتين قاومتانا في الماضي، ومن صميم الفؤاد أشكر لكم جميعا تلبيتكم الدعوة، وتشريفكم هذا الإسطبل، فقد جعلتموني سعيدا جدا؛ أولا لأنكم من زمن طويل لم تجتمعوا كلكم تحت سقف واحد. وثانيا لأن آمالي عظيمة في نتائج اجتماعنا الحسنة، فحضوركم يشير إلى الخير، وملامح وجوهكم المنيرة تنبئنا بالسلام. خذوني بحلمكم قليلا لأبسط لديكم بعض الكلام بشأن هذا المؤتمر مبينا بوجيز العبارة الغاية التي من أجلها دعيتم إليه، واعلموا يا أسيادي أن الحاجة وليس النظرايات الفلسفية دعتني إلى عملي هذا الخطير، لما رأيت جمعيتنا في تقهقر، ولما عاينت تقدم أعدائنا السريع هزني عامل الغيرة على صالحنا المشترك، وباشرت بالمشروع الذي جعلنا حجر زاويته مؤتمرنا هذا السلمي، نعم إن الحاجة تدفعنا والضرورة تنذرنا، والصالح العمومي يحركنا إلى إتمام أمرين خطيرين، ولو على الرغم منا، ألا وهما الاتفاق والاتحاد.
قد مضى على شقاقنا مئات من السنين، ونحن لم نزرع في خلالها إلا بذور البغض والشحناء والإحن، فكانت جمعيتنا تعلم أعضاءها كي يبغضوا أقاربنا الحمير، وجمعية هؤلاء تحث أعضاءها على القيام ضد إخواننا البغال، وكلنا أسيادي فروع من أصل واحد قد شتمنا بعضنا في الماضي قد اضطهدنا بعضنا، وضيقنا على نفوسنا، وقتلنا الألوف من القردة والثعالب والبقر والجمال، وغيرهم من الحيوانات التي خلقها الله كما خلقنا وجعلنا كلنا متساوين. قد فرقنا الابن عن والده، والأخ عن أخيه، والابنة عن أمها، والمرأة عن زوجها، وأضرمنا نيران الفتن في الهيئة الاجتماعية، ولماذا هذا كله ألتأييد سلطتنا التي هي واحدة؟ ألينتصر بعضنا على بعض بقتل أنفسنا؟ فما هو يا ترى سبب شقاقنا؟ ما الذي فرق بيننا، وجعلنا أعداء الداء؟ إني أخجل حينما أتأمل بهذا السبب الطفيف الذي نجمت عنه هذه الانشقاقات القتالة، أليس سبب انشقاقنا نحن الخيل عن الجمعية الأصلية قضية أحد الحمير الكبار الذي أراد أن يقترن بدابة في الدير، ومنعه عن ذلك نائب الأسد، فقامت قيامة الحمار الفصيح على النائب العظيم.
فرماه البغال خارجا وأغلقوا الباب.
وكان ما كان من الانقلاب الذي ندعوه إصلاحا، فهل هذه القضية الصغيرة تبقينا متشتتين عن بعضنا مدى الزمان؟ هل يجب أن نضحي حياتنا وحياة الملايين من إخواننا إكراما لمخلوقين تخاصما في الأجيال المتوسطة لغايات شخصية؟ أمن أجل هذا نتقاتل؟ أمن أجل هذا نشتغل بالسر ضد بعضنا، ونبتعد عن الوئام الذي فيه حياتنا؟ أمن أجل أفراد لا نعرفهم إلا من التاريخ نكيد لمن نعرفهم المكائد، ونسعى في إسقاط بعضنا البعض. قد مضى ما مضى، قد ارتكب أجدادنا جرائم عديدة، عار علينا أن نكررها نحن في هذا الجيل، نعم إني أشعر بهذه الذنوب التي ناءت علي كلها، فصرت أتأوه من ثقلها، قد اتصلت خطيئة أجدادنا بنا، فيجب أن نطهر أنفسنا بالقيام بهذا المشروع الذي فيه خير الحيوانية عموما، ألا تعلمون أن شقاقنا هذا هو سبب سعادة أعدائنا، وتقدمهم، ألا تعلمون أن قوة العدو - وهو عدونا كلنا - مؤلفة من ضعفنا، وتقدمه مستمد من تقهقرنا، وتقهقرنا ناجم عن انقسامنا، وانقسامنا ناشئ عن جهلنا، وجهلنا يثبته فينا غرضنا الأعمى، ومحبتنا الذاتية؟ فلنقتل إذن أغراضنا العمياء، فلنمت ولو إلى حين محبتنا الذاتية! أين الحكمة التي هبطت علينا من السماء، قل لي بربك أيها الحمار المحترم ما هي قوتنا الآن، وأين تلك السلطة الممتدة، والعز الشامخ؟ أين تلك الخيرات الغزيرة التي كانت تطرح على أقدامنا، قد زالت كلها أو أوشكت أن تزول، ونحن نحن الجانون على أنفسنا.
صفحه نامشخص
كلكم تعلمون أننا الآن في احتياج كلي إلى التكاتف والاتحاد؛ فالكهربائية عدوتنا اللدودة قد ظهرت في هذه الأيام، والبخار والهواء المضغوط جعلا خدماتنا للهيئة الاجتماعية أمورا ثانوية، فكم من أعضاء جمعياتنا يخدمون إله البطالة الآن، ولا يستطيعون أن يجدوا شغلا أنفع يشغلهم، فالعالم قادر على أن يستغني عنا إلا إذا استبدلنا الضعف بالقوة، وجمعنا كلمتنا، واستبدينا في أمورنا عندئذ نعامل العالم كله بالمثل، ونعلن استقلالنا فيعرف الناس إذ ذاك أن خدماتنا للهيئة الاجتماعية، ولو كانت أغلى من الكهربائية والبخار فهي أنفع وأحسن؛ لأنها أقل خطرا، وأكثر ثباتا، ويستطيع أن يتمتع بها كل مخلوق غنيا كان أم فقيرا، ضعيفا أم قويا، حقيرا أم عظيما، أما الآن فكم هي الآفات التي تكتنفنا، وتتهدد وجودنا؟ أمعنوا النظر في الترقي الحاضر - الترقي الشيطاني القتال - تجدوا أن باب الارتزاق في المدن قد سد في وجوهنا، فالأرتال تجرها الكهربائية، والعربات يجرها البخار، والأحمال الثقيلة ترفع وتنقل بالاسم بقوتنا، وبالفعل بقوتي البخار والكهربائية. وفي الشهر الماضي قامت شركة كبيرة ضد الخيل التي كانت تجر التراموي، وأخرجت من خدمتها ألف حصان قوي، وقامت شركة أخرى في إسبانيا مؤخرا وقتلت الوفا من الحمير التي أفسدها الخمول والكسل، والبغال في روسيا في انحطاط عظيم، ومع أن جمعية الحمير معززة في إسبانيا فهي لا تقوى على أعدائها الجبابرة، والحكومة الإفرنسية قرأت للعالم في هذا الجيل صفحة من تاريخها في أواخر الجيل الثامن عشر، وبضربة واحدة استأصلت الحمير، وأبادت جمعياتهم، أليست هذه المقاومة كلها نتيجة الاختراعات الجديدة، والقوات الكهربائية الحديثة؟ قلت: إن أبواب الارتزاق قد سدت أمامنا في المدن، فهل تظنون أن حالتنا في القرى أحسن؟ أليس الفلاح مستغنيا عنا؟ ألا يحرث أرضه بالآلات الميكانية والبخارية التي ظهرت في أواخر هذا الجيل؟ الزراعة بالآلات، والحصاد بالآلات، والخيل على خالقها؟ زمان مدلهم، مستقبل مكفهر، وحياة مرة ذليلة، قاتل الله الأوتوموبيل وأحرق في الجحيم مخترعه، فهذه الآلة وحدها رمت في عالم البطالة الغير المتحرك الوفا من الجياد القوية، وقد سقطت أسعارها الآن، وكثر عددها، فصار يقتنيها كل إنسان فقيرا كان أم غنيا. هذه حقائق تؤلم وتحزن، وإذا دام هذا الحال يضمحل لا شك جنسنا، وتتلاشى جمعياتنا، ألسنا نحن الذين سلط الله الإنسان علينا فقلبنا الآية بمهارتنا، وتسلطنا عليه في القرون الغابرة؛ قرون الحصان والحمار والبغل، قرون لم تبرق فيها الكهربائية، ولم يعتم بأفقها البخار.
قد تمتعتم بلذة السلطة، وذقتم حلاوة العز والاستبداد، فكنتم تجرون الشعب في العربات المقدسة العظيمة إلى حيث شئتم، وكان إذ ذاك الله الحوذي، كنتم إذا نقمتم على الجمال تشنون عليهم الغارة، فتزحفون على معاقلهم بألوف من الحمير والبغال، يقودهم حمار قصير أعمى يمتاز عن إخوانه بشهنقته الفصيحة، كان إذ ذاك الله الحوذي، أما الآن فلا عربة ولا حوذي، فقد هجرنا الهناء، وحرقتنا الكهربائية بشرارها. وإذا كان قد بقي بعضنا في خدمتنا القديمة، فلا يعامل قط كما كنا نعامل في الماضي، فإذا وقفنا أمام العربة، وشمسنا أو كبونا أو حرنا هز لنا الحوذي الظالم سوطه، هذه هي نتيجة ضعفنا، فالناس ينظرون إلينا، ويجدوننا متخاصمين، فيزدرون بنا ويذلوننا، وفي النهاية يطردوننا من بيوتهم وإسطبلاتهم، فتأملوا يا أسيادي في هذه الحالة، يوجد في جمعيتنا الآن خمسة آلاف حصان بطالين طردوا من مراكزهم؛ لأن أصحابهم يفضلون خيل الكهربائية على خيل الله، فمن أين يأكل هؤلاء المساكين؟ فلو لم تكن الحروب قائمة أبدا على قدم وساق بين تابعي الأسد والبرابرة لكانوا يموتون جوعا، فيفسد الهواء من نتانتهم، فقد بعثنا في الأسبوع الماضي ألفي حصان إلى الصين، وألفي حصان إلى الترانسفال فتستخدمهم هنالك الدول البشرية لغاياتها الدنيئة، وهم لا يعبئون بذلك؛ لأنهم يختالون مضطرين، ويداهنون مكرهين، من منا يموت شهيد مبدئه في هذه الأيام؟ فمن كان بأشد الحاجة إلى المال يخدم من يستأجره بأجرة كبيرة، ونحن لا نلومهم بل يجب أن نلوم أنفسنا؛ لأننا غافلون عن مصلحتنا، لاهون بالانقسام، تائهون في فيافي الأوهام ومهامه التخيلات، وها أنا الآن ألقي عليكم سؤالا صغيرا: هل تريدون أن تعيدوا سلطتكم، وتعززوا أنفسكم؟ هل لكم أقل مطمع في هذه الحياة؟ فإذا كان ذلك فعليكم بالاتحاد، عليكم بالتحالف، ولننس اختلافاتنا الصغيرة، ولنذكر أننا كلنا من طائفة واحدة، ومن نوع حيواني واحد، جمعياتنا مشتقة بعضها من البعض، والمرجع كله إلى أصل واحد نتبع معلما واحدا نعبده، ونحبه فوق كل شيء، ولا يهم إن أحب الحمير الأم أكثر من الابن، أو الأب أكثر من الابن، فلا يجب أن نختلف ونتناقش على مسائل وهمية لا دخل لها في شرائعنا، فهل قال لنا الأسد - له المجد - أن نعبده بطريقة مخصوصة؟ هل أمرنا بأن نتخاصم بسبب دمه وجسده؟ هل يهمه إن عبدناه رأسا أم بواسطة الصور والتماثيل؟ نعم قد حثنا لا بل قد أمرنا بمحبة بعضنا بعضا، حتى إنه قال: حبوا أعداءكم، فلماذا إذن لا نعمل بقوله هذا، ونهمل ما لم يقل لنا عنه شيئا. نعم يا أسيادي قد تفكرت كثيرا في هذه الاختلافات، ووجدت بعد الدرس المتواصل أن الأسد لم يقل لنا عنها في كتابه شيئا، ولذلك تحققت أنه لا يريدها، وأظن أنه يتألم إذا رآنا نقاتل بعضنا بعضا، فالاختلافات هذه لم يولدها إلا مطامع من تقدمنا من القواد، إنها والحق يقال بنت تلك المجامع الشريرة التي عقدها أجدادنا في الأجيال الأولى؛ ليقفوا كما كانوا يزعمون على تفسير حقيقي لأقوال الأسد التي لا يوجد في كتب الفلسفة والحكمة أبسط منها، وكلكم لا شك تعلمون ما كان لهذه المجامع من التأثير السيئ على العالم عموما وعلى جمعيتنا خصوصا.
تعلمنا شريعتنا نكران الذات، ونحن لا ننكر إلا قريبنا، تعلمنا محبة العدو ونحن لا نحب إلا أنفسنا، تعلمنا التقشف والابتعاد عن حطام الدنيا ونحن أكثر الحيوانات تمسكا بها، ثم نفسر آيات الكتاب بصورة تساعدنا على مطامعنا، فنحن نعلم حق العلم أن أجدادنا ومعلمي الجمعية الأولين أخطئوا في مجامهم، وقد ارتكبوا جرائم فظيعة في تفسير شيء واضح، فأي مجمع عقد في الأجيال الأولى، ولم يحدث فيه الضرب والقتل والذبح. إن تلك المجامع لم تكن إلا مجامع مهاترة، وسباب وتعيير، فيها كانت تدور المناقشات المنطقية، والجدالات اللاهوتية المبهمة التي لا يفهمها عاقل، اسمعوا ما قاله أحد الحمير العلماء عن هذه المجامع الباطلة: «وأراني مضطرا إلى قول الحق عن هذه المجامع، فأنا أتشاءم من كل مجمع أحبار؛ لأنني لم أر حتى الآن نتيجة حسنة لواحد منها، ولم أحضر مجمعا واحدا كانت منافعه أكثر من أضراره، فعاقدو المجامع عوضا عن أن يقمعوا زعماء الشر كانوا يزيدونهم شرا وتمردا، فالمناقشات المنطقية، والجدالات اللاهوتية الفارغة كانت سائدة في كل اجتماعاتهم». وهذا كلام أحد أعضاء الجمعية الذي لا ريب في صحته؛ إذ لا نقدر أن نتهمه بالتعصب والتحزب لغايات ذاتية، ومما يدلنا على ضعف أولئك الرؤساء وخمولهم ما نقرؤه في الملحق لوقائع المجمع الأول العظيم، جاء فيه أن أعضاء المجلس لما لم يستطيعوا أن يميزوا الكتب الحقيقية من الكتب الكاذبة وضعوها جميعها على طاولة وخلطوها، ثم أخذوا يتوسلون إلى الروح القدس طالبين أن تسقط الكتب الكاذبة على الأرض، وتبقى الصحيحة على الطاولة بأعجوبة، وهكذا صار كما يزعمون، لا تظنوا أن إيماني في الروح القدس فاتر، كلا غير أن الله - عز وجل - أعطانا عقولا نستنير بها، ونميز بين الحقيقة والوهم.
فهل تريدون أن يقال عن مجمعنا هذا ما قاله ذاك الحمار عن المجامع القديمة، كان أجدادنا يجتمعون ليقاوم بعضهم بعضا، وينتقموا من الذين كانوا يظنونهم منشقين، وقد فاتهم - برد الله ثراهم - أن في مقاومة المنشقين مقاومة لأنفسهم، أما نحن فنجتمع الآن لنقاوم قوات الشر الحقيقية؛ القوات التي ظهرت نتائجها، وأثرت كثيرا في مصالحنا، فصرنا نشعر بالتقهقر، ونحس بالسقوط، نعم إن البرهان على تقدم أعدائنا برهان حسي لا يجهله إلا كل متغفل خامل، ولا حاجة للقول إن اجتماعنا هذا على جانب عظيم من الأهمية، وسيدون التاريخ أعمالنا بماء الذهب إن شاء الله. وإذا كانت حيوانات هذه الجيل لا تقدر مشروعنا حق قدره، فهذا لا يحولنا عن القيام به تاركين الحكم لذريتنا. العالم كله يتقدم وليس من الواجب أن نبقى نحن متشبثين بأغلاط أجدادنا الغير المقصودة؛ فهم أورثونا الشقاق والخصام، ونحن نورث أبناءنا المحبة والوئام، أضاع أولئك المساكين أوقاتهم في المناقشة الفارغة، ونحن نصرف هممنا إلى القيام بالمشاريع المفيدة، فكيف نستطيع أن نرهب أعداءنا ونسود عليهم، إذا كان لا يمكننا أن نجمع كلمتنا، ونرتبط مع بعضنا برابطة الشريعة والجنس. قد أخطأ أجدادنا، فهل من الواجب علينا أن نقتفي أثرهم، ونرتكب الجرائم التي ارتكبوها، فلنبتعد عن المناقشات المنطقية، والجدالات اللاهوتية، ولننظر في أمر واحد فقط، هل يجدينا انقسامنا على أنفسنا نفعا؟ هل نستطيع الوقوف أمام القوات الكهربائية والبخارية ونحن منقسمون، ألا نسحقها سحقا إذا جمعنا قوتنا المالية والعلمية، وضممنا قدرتنا، وجعلنا من جمعياتنا كلها جمعية واحدة عمومية؟ اطردوا من عقولكم كل التعصب والأميال الدنيئة، واذكروا أنكم كلكم من تبعة الأسد العظيم، وأبناء الإله الواحد القدير، فلا حمار ولا بغل ولا جواد ولا كدبش بيننا، بل كلنا حيوانات نتحد بالمذهب، ونشترك بالجنسية، ونرفع رءوسنا تحت سماء واحدة، ويجري في عروقنا الدم الذي يجري في عروق إخواننا، وتشرق على مراعينا شمس واحدة، ما بالنا إذن لا ننظر إلى سوء حالتنا، ونعمل على تحسينها، نحن كلنا نعبد إلها واحدا، ونتنفس هواء واحدا، فلماذا إذن لا نتخذ الوسائط الفعالة لملافاة أسباب سقوطنا.
كونوا متيقظين، واصرفوا عنكم الضربة قبل أن تنزل عليكم «درهم وقاية أفضل من قنطار دواء»، إن القوات الكهربائية تضر بصالحنا، فيجب علينا أن نحطمها تحطيما، يجب أن نبقيها في قلب الأرض، وكيف يتسنى لنا إتمام ذلك، بالاتحاد! إن التمدن الحديث يحفر تحت قصورنا الشائقة، ولا بد أن تصبح رءوسنا يوما بين الأنقاض إذا لم نوقفه عن متابعة عمله، ولا نستطيع قتل التمدن الحديث إلا بإيجاد تمدن جديد مناقض له، ولا نقدر أن ننشئ هذا التمدن إلا بجمع كلمتنا، إن النجاح المادي الذي امتاز به هذا الجيل الشرير قائم بسلبنا كل خيراتنا، ووضعها بيد الأفراد القليلين، إذن يجب علينا إيقاف هذا النجاح وقتله في طريقه، وذلك لا يتيسر لنا إلا إذا جعلنا جمعياتنا هذه جمعية واحدة يترأسها حيوان واحد، هذه خلاصة كلامي أكررها بعبارة بسيطة حتى لا يحصل سوء تفاهم، نحن ضد القوات الكهربائية، والبخارية، والهواء المضغوط معا.
نحن ضد التمدن الحديث بكل مظاهره.
الحصان يخطب: نحن ضد التمدن الحديث.
نحن ضد الاختراعات الحديثة، والمبادئ الجديدة الخبيثة.
نحن ضد النجاح المادي الذي مد يده إلى ذخائرنا، وسلبنا كل نفيس عندنا، وأنتم تعلمون ما لعدونا من القوة ومنعة الجانب، ولكن لا بد من إبادته، ولذة النصر تزداد كلما ازدادت قوة العدو، ولكن كيف ننتصر بالاتحاد، بالاتحاد، بالاتحاد، بالاتحاد القوة، وبالانقسام الضعف، بالاتحاد التقدم والنجاح، وبالانقسام التقهقر والانحطاط، بالاتحاد المجد والعلى، والانقسام الذل والخمول، بالاتحاد السؤدد والعز والسلطة، وبالانقسام الحقاة والعبودية والهوان، بالاتحاد العمل المفيد، وبالانقسام العطلة المضرة، بالاتحاد الحياة، وبالانقسام الموت، بالاتحاد نبقى سائدين، ونستظهر على العدو، وبالانقسام تفقد سلطتنا، وتضمحل جمعيتنا، وتخلفها شياطين الشر والرذيلة، فاختاروا إذا أحد الأمرين؛ إما أن ننقسم ونموت، وإما أن نتحد ونحيا.
فصرخ الجميع بصوت واحد «الاتحاد والحياة»، «الاتحاد والمحبة»، وأخذوا يلبطون بأرجلهم دلالة الاستحسان والإعجاب بما جاء به ذلك البحر الفهامة من بلاغة المعاني، وفصاحة الكلام، وسداد البرهان، وقوة الحجة، ثم قام البغل وشكر أولا صاحب الدعوة، وأثنى عليه كثيرا، وأبدى شيئا كثيرا من التبجيل والمجاملة، وهما من أهم أدبيات معشر الحيوانات، ثم قال: «ما كنت أحسب أن الحصان المحترم يدعونا إلى إسطبله العامر ليحثنا على الاتحاد، ويندد بالشقاق والعناد، ما كنت أحسب أن هذا الفاضل يبدأ بمشروع شريف كهذا، ويكون أول من ضحى لأجله حقوقه ومصلحته، ما كنت أحسب أن بعد هذا الفراق الطويل (وكانت الدموع تتساقط على وجنتيه، فأخذ منديله، ومسح عينيه، وتابع كلامه بصوت منخفض) الفراق الطويل الذي ولد في قلوبنا الضغينة والبغضاء والقسوة، يقوم حصان فاضل عالم بدعوة جديدة، لربما حسبها البعض شذوذا، ورماها آخرون بباطل الكلام، ولكن سواء عدت شذوذا أو لم تعد فهي أشرف وأجل دعوة يقوم بها الحيوانات بعد أن حل فيهم الانشقاق، ومن منا لا يريد أن يتمتع بالعز الذي حصل عليه أجدادنا وأسلافنا، من منا لا يريد أن يسترد ذاك المجد الغابر الذي مرت عليه دواليب الكهربائية في هذا الجيل، فكادت تحطمه تحطيما، من منا لا يريد أن يدخل هيكل ذاك السلطان العظيم الذي سود وجهه دخان المراكب البخارية.
صفحه نامشخص
تعلمون - رعاكم الله - أن البغال في البلاد الشمالية التي أنا منها لا يزالون على شيء قليل من السؤدد والعز، غير أن هذا القليل سيزول قريبا، وتمسي البغال والخيل في حالة واحدة تشملها التعاسة والذل والهوان، إن جمعيتنا البغلية يتناقص عدد أعضائها يوما فيوما؛ وذلك لأن الحالة السائدة على الخيل في هذه البلاد تحكم الآن بنوع ما على البغال في بلادنا، فالتجارة المتبادلة بين الأمتين تمهد طرق الترقي الحديث، والاختراعات العلمية، والقوات الكهربائية أخذت تظهر الآن أمامنا، وصرنا نشعر بشيء من سوء تأثيرها علينا، ولو لم يكن لنا مستعمرات عديدة يلزمها للقيام بشئونها وتدبيرها بغال كثيرة لكانت جمعيتنا الآن في ظلمة الموت والنسيان، ولكن لا يزال الملك شاملنا بأنظاره، وحامينا بتاجه وسلطانه، ومع ذلك فنحن في رأيي لم نحسن قط تدبير الجمعية؛ إذ إننا لم نجتهد في أن نوسع نطاقها، ونزيد أعضاءها، بليتنا الكبرى هي من مجلسنا الذي أقمناه لتدبير شئون الجمعية، فهو - والحق يقال - مجلس جمع دببة الغباوة والطيش، والتعصب والظلم، وكل حكم يصدره هذا المجلس يضعف من قوتنا، ويجعلنا ممقوتين بين الناس والحيوانات، وقد سمعتم ولا شك بالحكم الأخير الذي أصدره حكم لا يدل على شيء من الحكمة والرزانة والسياسة، أريد به الحرم الذي ألقته جمعيتنا بواسطة مجلسها الموقر على أحد الثعالب الكبار الذين يبشرون في آخر هذا الزمان بمذهب كهربائي تصدع الرءوس صدمته، وهو ينتشر بسرعة البرق، ولكنه لا يختفي كالبرق عند ظهوره، وكلما شددنا على أصحاب هذا المبدأ الكهربائي اللعين كلما ازداد نوره، وكلما ضغطنا عليه ازداد ارتعاشنا، فالحرم الذي وضعه مجلسنا المستبد على هذا الثعلب الكبير بين قومه قد أضر بجامعتنا ضررا جسيما؛ لأنه جاء على عكس ما كنا نظن، وعوضا عن أن يبعد بقية الثعالب والحيوانات عن صاحب هذا المبدأ الخبيث زادهم تقربا إليه، نحن نسلحهم بطيشنا وهم يقاتلونا باتحادهم، ولا تظنوا أنني أهاب هذا الثعلب السفيه المجدف، وإني أنتقد مجلس التدبير خوفا من هذا الكافر، وتزلفا إليه، كلا فهو الحق أقوله صادعا، تكفينا المخاطر الخارجية، فما الحرم إلا ألعوبة يلهو بها المحارم، ويرفسها المحروم، لا أنكر أنه كان لهذه الألعوبة أيام هائلة في الأحقاب الغابرة، فكانت إذا وقعت على رأس أحد قتلته اجتماعيا وأدبيا، وقتلت معه كل من ينتمي إليه، أما الآن فالطابة كبيرة، غير أنها مملوءة هواء، والذي يراها في الجو ساقطة ينخدع ويهرب من تحتها، ولكن بعد أن تقع على الأرض يسكن روعه، ويضحك كثيرا، إن هذه الخزعبلات لمن الآثار القديمة التي يجب علينا تركها، فالأولى بنا أن نباشر أعمالا تضمن لنا الفوز، وتبقي سلطتنا محصنة بمعاقل الاتحاد والذوق السليم، إن العدو شديد البأس عظيم القوة، وإذا لم نقابله بقوة أعظم وأشد فعلى جمعياتنا البغلية والحمارية، ومجالسنا التدبيرية السلام، لا حاجة للقول إنني من رأي الحصان الفاضل في كل الأفكار التي أبداها، وبرهن عنها بفصاحة وبلاغة يعجز مثلي عن الإتيان بمثلها، غير أني أريد أن أسأله علنا سؤالا واحدا صغيرا وهو: أية طريقة يجب علينا اتخاذها لننتصر على القوات الكهربائية والبخارية، ولنسحق التمدن الحديث، ولنقتل النجاح المادي الذي أفقرنا وأغنى أعداءنا؟ لا شك في كون الاتحاد مقبولا ومعقولا، فأنا أضحي الحقوق التي تطلبونها إن اقتضى الأمر، وأعري نفسي من السلطة المعطاة لي إذا كانت هذه المحالفة تتم، ولكن كيف يجب أن نباشر العمل.
أنا أثني على قول الحصان الفاضل في أن المناقشات المنطقية والسفسطية، والجدالات اللاهوتية لا تفيدنا، ولا مجال لها في هذا المؤتمر، وأننا كلنا من تبعة الأسد له المجد، وتلك الاختلافات الصغيرة لم تولدها إلا مطامعنا، وبالحري مطامع أسلافنا، فهل يجب أن نخضع لأغلاط أسلافنا؟ هل يحكم الماضي المحدود على المستقبل الغير المحدود؟ هل يسود الجهل على العلم الحقيقي والظلام الكالح على النور الإلهي الساطع. نعم، إننا نعيش في جبل النور، وإذا كنا ذوي عزم وحزم ونشاط ودهاء، فلنستخدم نور الكهربائية لسحقها، أي لنقتل عدونا بسلاحه، إني أشعر من ذاتي بضعف وانحلال أظنهما ناجمين عن دخول التحسينات العصرية إلى بلادنا الشمالية، وكلما قربت منا هذه القوات سلبتنا شيئا من قوتنا بجاذبيتها، فلا يمضي ردح من الزمن، ونحن على هذه الحال حتى نرى أنفسنا في قبضتها وتحت دواليب العربات والأرتال، هذا إذا لم نتحد ونبذل الجهد في إبعادها عنا، وملاشاتها من العالم كله.
يجب أن تبقى مدفونة في طبقات الأرض كما قال حضرة الحصان المحترم، ولا أظن أن كلامي يزيد الفائدة بعد أن أفاض حضرته في الحديث، وبين لنا أضرار الشقاق ومنافع الاتحاد، فأنا بالنيابة عن نفسي، وبالأصالة عن إخواني وبغالي أقول صريحا: إننا مستعدون، ولا يحولنا أمر عن الاتحاد، وسنبذل في سبيله النفس والنفيس، ونضحي إن اقتضى الأمر كل عقائدنا وعوائدنا، ونظل متمسكين بما أمرنا به الأسد فقط، وكي لا أضيق صبركم، وأثقل على سمعكم أكثر من هذا أقتصر على ما تقدم، مكتفيا بالقليل من الكثير، راجيا من جميع الممثلين الحاضرين أن يعضدونا بنفوذهم، ويشاركونا بآرائهم، ويضعوا نصب أعينهم العبارة التي ختم بها من تقدمني خطابه الأنيق، ألا وهي: في الاتحاد الحياة، وفي الشقاق الممات، فلتكن الحكمة مشكاتنا في طريقنا الوعرة، وعلى الله وابنه - لهما المجد - الاتكال».
وكان لكلام البغل وقع حسن في نفوس سامعيه، وبالأخص البغال، فقد أخذ منهم التحمس كل مأخذ، وطفقوا يلبطون وينهقون، حتى إن أحدهم قام وشرب نخب البغل الذي تكلم، وأضاف إلى ما كان في جوفه من الخمرة كأسا أخرى، وأخذ يرقص من الطرب ويقول: الاتحاد بلا الخمرة هو كالسهاد الدائم كالحياة بدون رقاد، وكالنهار بدون الليل، فاشربوا ما زلتم صاحين، واستقبلوا الليل بالمدام، وما أحلى السكر تحت الظلام، إني أشرب نخب (وملأ كأسه ثانية، ثم نظر إلى الحاضرين وتبسم وقال): اشرب نخب الخمرة ذاتها، وشرب حتى برز بطنه، فأخذ يغني ويلبط ويرقص حتى اشمأز منه الصاحون من البغال والحمير، وطلبوا إخراجه، فقبض عليه حالا، وألحق بالحمار الذي طرد قبله، ثم وقف بعد ذلك رئيس الحمير وكبيرهم، وهم بالكلام فقاطعه الحصان قائلا: «اسمح لي أيها الحمار المحترم أن أجاوب البغل الفاضل على سؤاله، قال حضرته: إن الاتحاد أمر سهل، ولكن كيف يتم به نصرنا على العدو، فباختصار أقول: إن الخطة التي افتكرت بها هي أن نصدر بلاغا رسميا إلى كافة المؤمنين به، نأمرهم بألا يستخدموا القوات الكهربائية والبخارية، ولا يمسوها، ولا يقتربوا منها، ولا يعاملوا، ولا يضيفوا، ولا يصادقوا من كان له علاقة مع أصحابها، وبلاغنا هذا يعمل به متى جمعنا كلمتنا، وجعلنا أنفسنا تحت ظل سلطان واحد يكون له من القوة أعظمها، ومن السؤدد أمكنه، ومن المقام أرفعه، ومن البأس أشده، فيصدر هذا الحرم إذ ذاك، ويخيف المؤمنين ويرعبهم، فيطيعوا صاغرين خاضعين، أما في حالتنا الحاضرة فلا أحد يعتبر حرمنا، وكل الناس يزدرون بنا، ويسخرون بانقسامنا وخصوماتنا، حرم رسمي صادر عن مركز جمعية عمومية عظيمة، يلقي في صدور الحيوانات المؤمنين الرعبة، ويأتي بالمراد. هذه الخطة يجب علينا اتخاذها، وهذا هو الدهاء السياسي الذي يكفل لنا النصر، ويعيدنا إلى مركزنا السامي الذي سقطنا منه».
الفصل الرابع
المحالفة: تتمة
وبعد أن فرغ الحصان من كلامه، وتبوأ مركزه جاء الخدم بالقهوة والسكاير، ووزعوها على الحاضرين، فشربوا ودخنوا وهم معجبون بما ظهر في هذه الحفلة من الآراء السديدة، والشواعر الأخوية الجديدة المؤسسة كلها على الحب والاتفاق، فتهللوا وقالوا في أنفسهم: إن ملكوت السماوات قريب، وسنرثه بعد قليل على الأرض، وفي خلال هذه الفرصة قام رئيس الحمير ثانية وألقى خطابا فصيحا منسوجة بردته من الأقوال البخارية، والأمثال النباتية، والدرر الحيوانية، والتشبيهات الكيماوية، والأدلة العلمية، وكي لا يحرم القارئ من فائدته نثبته له بالحرف الواحد، وعلى فرض أنه لا يفيد فهو يكبر حجم القصة على الأقل، قال: «لم أسمع قط في زماني ما سمعته في هذا المؤتمر الزاهر من الحصان والبغل الفاضلين، ولم أحسب أنني أعيش إلى يوم فيه تتألف قلوب الرؤساء المتخاصمين، وتزول اختلافاتهم، وتتلاشى دفعة واحدة كل تحزباتهم وأغراضهم، كم هو جميل أن يعود الحصان والبغل إلى حضن أمهما الجمعية الأصلية الكلية الشاملة المقدسة، فهما لا شك يعرفان أن الأم تحن إليهما اشتياقا وترحب بهما بفرح وسرور عظيمين، فقد هجرتموها أيها الأفاضل مدة ليست بقليلة، وقد رميتم في قلبها حسرة الفراق، وولدتم في كبدها مرض السويداء، ولم تكتفوا بذلك بل شننتم عليها الغارة، ودسستم الدسائس، وكدتم المكائد، وهي لم تحنق عليكم قط، ولم تمت شواعرها اللطيفة، ففي أيام المصائب كانت تحبكم كما أحبتكم في أيام العز والسيادة، وقد قال نائب الأسد العظيم: «إنه يبغض الخطيئة، ويحب الخاطئ»، وقد مضى ما مضى، وعدنا الآن نطلب الاتحاد بعد الخصام، وجمع الكلمة بعد تفرقها، ورد العناصر بعد انحلالها إلى عنصر واحد، وهذا لا يتم إلا إذا كانت المحبة أساسه، فأنتم تعلمون بأن المحبة للجسم الاجتماعي هي كالأكسيجن للجسم الحيواني، فإذا وضعنا حيوانا في غرفة قذرة ليس في هوائها شيء من جوهر الأكسيجن، فلا يعيش هذا الحيوان إلا بضع ساعات، وإذا جعلنا اتحادنا قائما بذاته دون أن يدخله عنصر المحبة، فلا يبعد أن نخرج من هذا الإسطبل أعداء وليس أصدقاء، وكما أن الأكسيجن يدخله جوهر آخر وهو الأزوت (ولا تظنوا أني أريد بالأزوت ذاك الدواء العمومي الذي اختاره باراسلسوس الطبيب ليشفي جميع الأمراض)، بل هو الأزوت الذي يحترق في الجسم الحيواني، ويولد فيه الحرارة، فيجب أن يمتزج مع المحبة جوهر آخر وهو الغيرة، فالأكسيجن يحيينا، والأزوت يضرم في قلوبنا نار النشاط والغيرة والاجتهاد.
ولا يكفي أن تكون المحبة مع الغيرة أساس اتحادنا، بل يجب أن نضيف إليهما النزاهة والإخلاص، فهذه الأمور الجوهرية الثلاثة، أي: المحبة، والغيرة، والنزاهة هي المغذية لجسمنا الاجتماعي، والقائمة به، ومتى بنينا عليها اتحادنا فلا يقوى علينا وقتئذ الأشرار، وإذا اقتربوا منا يولون من خوفهم مدبرين خاسئين، ولا تظنوا أن سنة اتحادنا هذه محصورة في الهيئة الاجتماعية، فهي تشمل أيضا المملكة النباتية، يذكر من درس علم النبات أن المواد التي تجعل الأرض مخصبة، وتصير ترابها صالحا لإنماء النبات، وتغذيته هي تحاكي بخاصيتها العناصر الثلاثة التي قلنا إننا سنشيد عليها بنيان محالفتنا، وهذه المواد الضرورية لتغذية النبات هي الأزوت والحامض الفوسفوريك والبوتاسا، وإذا لم تتوفر المواد بحالات مخصوصة في الأرض لا ينمو عليها نبات مطلقا، وكما أن الأرض والنبات يفتقران دائما إلى هذه المواد الثلاث، فالجسم الاجتماعي يفتقر إلى الثلاث فضائل التي تحاكي بخاصيتها الأزوت، والحامض الفوسفوريك، والبوتاسا.
فالأزوت يضرم في الفؤاد نار الغيرة كما تقدم، ويحرق العدو في كبده، والفوسفور يسهل لنا طريق النزاهة، وينير قلوب المؤمنين، والبوتاسا تتمم وظيفتها، وتكون صلة أو جاذبا بين الاثنين، وتتحد مع الأكسيجن لتملأ لنا كأس المحبة، وكل يعلم أن سنة المحبة تفتح يديها لاقتبال جميع الحيوانات على اختلاف طبقاتهم باعتبار كونهم أولاد عائلة واحدة، مولودين من أب واحد رءوف رحيم، مفتدين من مخلص واحد، ومدعوين إلى إرث سرمدي واحد، فهذا هو حقا تعليم رفيق الأسد وإرشاده، كونوا جسدا واحدا، وروحا واحدة، كما دعيتم إلى رجاء دعوتكم الواحد، وللجميع رب واحد، وإيمان واحد، وإله واحد، وأب واحد هو فوق الجميع ، ومع الجميع، وفي جميعكم. هذا فيما اختص ببنيان الاتحاد وأساسه، أما وجوب الاتحاد وضرورته فهذا أمر آخر أرجو أن يكون لي قليل من الوقت لأبدي ما يعن لي في شأنه، ولا أرى مندوحة من أن أقول: إن جمعيتنا ليست في الضعة والانحطاط اللذين أحاطا بجمعيتي البغال والخيل، ولا تؤاخذوني إن أنا صرحت بأفكاري كيفما خطرت دون تكلف ومجاملة، فأنا أرى أيها الحصان والبغل المحترمان أنكما أشد احتياجا إلى الاتحاد منا، فنحن لا نزال راتعين في بحبوحة السؤدد، متبوئين عرش السلطة الغير المحدودة، ولا يزال لرئيسنا الشأن الأعلى، والحظوة الكبرى، والمجد الشامخ، والأمر المطلق المعزز؛ وذلك لأن القوات الكهربائية والبخارية لم تدهم حتى الآن سفح جبالنا الشامخة التي تتساقط عليها أمطار التقوى، ويكللها ثلج الطهارة والنقاوة، ولا ينبت في أراضيها الخصبة الصالحة إلا أشجار الخشوع التي تثمر أثمار الطاعة والخضوع، نعم لا يزال الحمير في مجدهم مارحين، ولا يخشى عليهم من السقوط والموت جوعا، كلا إن أراضي جبالنا الشامخة مخصبة غزيرة الخيرات والمراعي حول الإسطبلات العديدة، رحبة واسعة، لا أنكر أن بعض البغال الشموسة الحرونة تتعدى أحيانا على حقوقنا، وتحاول اهتضامها، وتزاحمنا على أعمال شتى، ولكن عددهم ليس بكثير لنرهبه، فنحن لا نحسب حسابا إلا للجمال الذين نخشى مزاحمتهم؛ فهم يحملون كل شيء، وكثيرا من كل شيء، وفي حالتهم الحاضرة يسلبوننا كثيرا من الأشغال التي تعود عليهم بالفوائد الجمة، فإن كنتم قد بليتم بالقوات الكهربائية والبخارية فنحن قد بلينا بالجمال الأقوياء الذين يفترون علينا دائما، ويهتضمون حقوقنا في كل مكان».
أحد البغال :
صفحه نامشخص
أصحيح أن بعض الثعالب قد خرجوا من عربتكم المقدسة، وأخذوا لأنفسهم الأوتوموبيل مؤخرا، وثاروا عليكم، وحاولوا كسر العربة التي تركبونها، وتسميم الحمار الذي يجرها؟
الحمار :
إن هذا لصحيح، وهو أمر يدمي فؤادي؛ فإني أحزن على كل ثعلب يهجرنا؛ لأني مؤكد بأن العربة الكهربائية التي يتخذها لنفسه لا بد أن تقوده يوما ما إلى الهلاك؛ لأنه لا يقدر على ضبط قوتها، فهي بيده كالسيف بيد المجنون أو الطفل. حقا إن أمر هؤلاء الثعالب يشق علي؛ فأنا دائما أجتهد لردهم إلى الهداية، وأحاول إقناعهم بالبرهان والحجة والمنطق، غير أنهم متغطرسون لا يرضخون، وذوو عناد لا يسمعون، وجهلاء لا يفهمون، وقليلو العقل لا يدركون، وضعيفو الدماغ لا يحدون ولا يميزون.
أحد البغال :
إذن قد أخذت القوات الكهربائية أن تظهر في جمعيتكم، ويجب أن تشرعوا في مقاومتها من الآن قبل أن يتسع انتشارها فتقوى عليكم وتسحقكم.
الحمار :
إن أمور هؤلاء الثعالب الطلاب ليست لتشغل الفكر وتقلق البال، فلا تأثير لأعمالهم على عقول الحكماء المتدينين، ولا صدى لأقوالهم في قلوب المتخشعين المعتدلين المتحفظين.
وعند هذا الكلام شعر الحمار باهتزاز جبته، فحول رأسه، وإذا بأحد الحمير يهمس بأذنه قائلا: «لا تعمم إن الثعلب على يمينك»، فتذكر ذلك الخطيب ولطف عبارته قائلا: ولنا والحمد لله تعزية في أن عدد هؤلاء المجدفين قليل جدا؛ إذ إن معشر الثعالب المتنورين المهذبين المحافظين على آدابهم لا يزالون معنا، هم سائرون في عربتنا المقدسة فيحترمون حميرهم، ولا يبخلون عليهم، ولا يثقلون لهم الأحمال، بل يتركونهم مارحين في المراعي الرحبة المخصبة، سارحين في أنحاء العالم، يأكلون من غزير الخيرات، ويجمعون كنوزا من المال ينفقونها على تشييد إسطبلات فخيمة لأنفسهم، إن هؤلاء الثعالب لأتقياء، وسينالون جزاءهم عند ربهم في السماء، أما أولئك الكفار المجدفين فتغفر لهم زلاتهم؛ كي يغفر لنا أبونا الذي في السماوات زلاتنا.
الحصان :
أيسمح لي الحمار المحترم بأن أقاطعه بسؤال صغير؟
صفحه نامشخص
الحمار :
تفضل.
الحصان :
أراك قد خرجت عن الموضوع، وأظهرت في بدء كلامك أنك تميل إلى الاتحاد، ثم قلت لنا إن جمعيتكم لا تزال معززة مستقلة، فهذا ما نتمناه لها غير أننا نريد أن نعرف الآن إذا كنت تريد أن تشاركنا في مشروعنا؟ أتريد أن تتحد معنا، وتضم سلطتك إلى سلطتنا؟
الحمار :
قلت لكم إن الجمعية الأصلية ترحب بفروعها المنشقة، وتتهلل برجوعهم إليها، أفلا يكفي هذا التصريح؟ أتظنون أني أكره الاتحاد، ولا أفضل الوئام على الخصام، والمحبة على البغضاء، والاتفاق على الشقاق؟ يا حضرات الأفاضل، أنا معكم قلبا وقالبا (برافو لبيط وشهنقة عالية)
أنا من أبناء هذا الزمان، وقد دفنت في زوايا النسيان ما ورثته من سيئات أجدادي قبل إتياني إلى هذا المؤتمر (بارك الله فيك! برافو برافو) ، أرجوكم ألا تظهروا استحسانكم باللبيط، بل أعيروني إن شئتم آذانا مصغية لأقول كلمتين في شأن رئيس الجمعية الجديدة المقبل، فإننا قد اتفقنا على مزج العناصر الثلاثة المجتمعة هنا الآن، وجعلها عنصرا واحدا، أو بكلمة أخرى نريد أن نؤلف من الجمعيات الثلاث جمعية واحدة عمومية شاملة يترأسها أحد إخواننا كائنا من كان، بشرط أن ينتخب بالقرعة، ويكون أهلا لهذا المنصب الخطير، فالرئيس ولا مشاحة يجب أن يكون على جانب عظيم من الاستقامة، والنزاهة، والتقوى، والحكمة، والتدبير، والإخلاص، والشجاعة الأدبية، والغيرة، والحزم، إلى غير ذلك من الفضائل الحسنة، أما أنا فأزيد على ذلك مزية يشترط أن تكون موجودة في من ينتخب رئيسا، وهذه المزية هي صلابة القلب وكبره.
فالرئيس العظيم ذو الحزم والنشاط والحكمة هو الذي يكون متصفا بصلابة القلب، وسعة الصدر، فالمزية الأولى تقيه من السقوط في شباك الشواعر الرقيقة الاصطناعية الغرارة، والمزية الثانية تجعله محبا لكل من كان صالحا غيورا دون نظر إلى مذهبه وجنسه، ومن كان له خبرة في أحوال العمران وترقيه، يعرف أن الذين يشعرون كثيرا يعثرون كثيرا، فهل يرفق أو يشفق قائد الجيش حين يأمر عسكره بالهجوم على إخوانه في الحيوانية؟ وهل يجب على الرئيس أن يتسامح ويتساهل مع كل من يحيد عن نهج الاعتدال، ويهيم في فيافي الضلال؟ إن الحيوان الرقيق الشعور ليس بأهل للرئاسة، ومثل هذا لا يصلح لتدبير شئون جمعية كبيرة عظيمة منتشرة في كل أقطار المعمور.
ولا أقول هذا لأجعل في قلوب كل الحيوانات صلابة وقسوة، كلا فإن هذا يضر بصالحنا، ويعربس مساعينا، ويصعب طريق مجدنا، فالحيوانات المرءوسة يجب أن تكون لينة العريكة، وعلى جانب من الدعة، كي ترضخ لأقوالنا، وتخضع لسلطتنا ونحن بصلابتنا وقسوة قلوبنا نمتص ماء حياتهم، ونبقيهم صغارا أذلاء، فيصدعون بأمرنا، ويمشون حسبما نريد، وعملنا هذا لا يخالف قط نواميس الطبيعة ، فإذا هو جائز ومحلل، خذوا لكم مثلا من حراثة الأرض، ومن تربتها، فإن من له معرفة في فن الزراعة يعرف بأن الأرض منها مندمجة، ومنها متفككة، وأن الطبقة الأولى تكون فوق الطبقة الثانية لتحصل على النتيجة المطلوبة، فالاندماج خاصة تحاكي فضيلة الصلابة في الرئيس، والتفكك خاصة تشابه فضيلة اللين، والرضوخ في المرءوس، ولو كان للرئيس ما في المرءوس من اللين والرطوبة لما تمكن من إدارة شئون الجامعة، وتعزيز صولتها، كما أن طبقة الأرض العليا تمتص الرطوبة من الأرض السفلى المتفككة، ولنفرض أن الأرض المتلاحمة تشبه القرميد، والرخوة تشبه الإسفنج، فإننا إذا أشبعنا الإسفنج ماء وهو كناية عن الأرض الرخوة، ووضعنا فوقه القرميد المماثل للأرض المتلاحمة الصلبة لامتص هذا الماء الذي في الإسفنج، ولكن إذا أشربنا القرميد ماء، ووضعنا فوقه إسفنجة، وضغطنا عليها، فإنها لا تمتص الماء منه. وإذا كنا نرجو لجمعيتنا الجديدة نجاحا، ولسلطتنا تأييدا، ولنفوذنا ثباتا، ولمبادئنا تعززا ومنعة يجب أن يكون الرئيس كالقرميد، والمرءوس كالإسفنج، ويجب أن نضع القرميد فوق الإسفنج، ونتركه يمتص منه ماء الحياة (لبيط وشهنقة ونهيق وهتاف) .
صوت حي :
صفحه نامشخص
برافو برافو فليحيا الحمار!
صوت آخر :
فلنضع القرميد فوق الإسفنج!
صوت آخر :
ولكن، هل تظن أيها الحمار العالم بأننا نقدر أن نمنع الإسفنج عن الامتداد، فإذا ضغطنا عليه بالقرميد من فوق يمتد إلى الجهات الأخرى بدون شك.
الحمار :
ليس هذا ما نتوخى إتمامه، بل غاية ما نتمناه هو أن نمتص الماء الموجود في الإسفنج، ولا يهمنا بعد ذلك إذا امتد في الطول أو في العرض.
صوت آخر :
نعم نعم هذا ما نرغبه لقد أصاب الحمار المحترم، والعالم الفاضل بتشبيهه الحسن، وعند هذا حدث في المجتمع لغط شديد وجلبة قوية، فمن الحمير من كان يغني ويرقص ويلبط، ومن البغال من كان يشرب ويرتل ويردد الأشعار، فنهض الحصان إذ ذاك، وأومأ إليهم بيده طالبا منهم الإصغاء.
الحصان :
صفحه نامشخص