5
ترتعش أمام النسيم، وتفتح قلبها لأشعة الفجر، وتضم أوراقها بمرور خيالات المساء، فإن لم يكن للصبي من الملاهي ما يشغل فكرته، ومن الرفاق من يشاركه في الأميال كانت الحياة أمامه كحبس ضيق، لا يرى في جوانبه غير أقوال العناكب، ولا يسمع من زواياه سوى دبيب الحشرات.
أما تلك الكآبة التي أتعبت أيام حداثتي فلم تكن ناتجة عن حاجتي إلى الملاهي؛ لأنها كانت متوفرة لدي، ولا عن افتقاري إلى الرفاق؛ لأني كنت أجدهم أينما ذهبت، بل هي من أعراض
6
علة طبيعية في النفس، كانت تحبب إلي الوحدة والانفراد، وتميت في روحي الأميال إلى الملاهي والألعاب، وتخلع عن كتفي أجنحة الصبا، وتجعلني أمام الوجود كحوض مياه بين الجبال، يعكس بهدوئه المحزن رسوم الأشباح، وألوان الغيوم، وخطوط الأغصان، ولكنه لا يجد ممرا يسير فيه جدولا مترنما إلى البحر.
هكذا كانت حياتي قبل أن أبلغ الثامنة عشرة، فتلك السنة هي من ماضي بمقام القمة من الجبل؛ لأنها أوقفتني متأملا تجاه هذا العالم، وأرتني سبل البشر، ومروج أميالهم، وعقبات عتابهم، وكهوف شرائعهم وتقاليدهم.
في تلك السنة ولدت ثانية، والمرء إن لم تخبل به الكآبة ويتمخض به اليأس، وتضعه المحبة في مهد الأحلام، تظل حياته كصفحة خالية بيضاء في كتاب الكيان.
العالم الكامل
يا إله النفوس الضائعة، أيها الضائع بين الآلهة، استمعني! أيها القدير الرحيم الساهر على نفوسنا التائهة المجنونة، أصغ إلي! فإني وأنا ناقص أعيش بين الكاملين من البشر. أنا، أنا البشرية المشوشة السديم، المضطرب العناصر، أتخطر بين عوالم تامة من شعوب قد كملت شرائعهم، وتنزهت نظمهم، وتنسقت أفكارهم
1
صفحه نامشخص