كتاب المهذب في فتاوى الإمام عبد الله بن حمزة
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
[رب يسر برحمتك. قال محمد بن أسعد بن علاء بن إبراهيم داعي أمير المؤمنين].
الحمد لله حمد الشاكرين على آلائه، المعترفين بجميل بلائه، وصلى الله على خير أنبيائه محمد وآله وسلم وكرم.
أما بعد:
فإني نظرت فيما جمعه الشيخ العالم محيي الدين محمد بن أحمد بن علي بن أحمد بن الوليد القرشي الصنعاني من فتاوي أمير المؤمنين المنصور بالله عبد الله بن حمزة بن سليمان بن حمزة بن علي (بن حمزة) بن أبي هاشم الحسن بن عبد الرحمن بن يحيى بن عبد الله بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه وعلى آبائه السلام.
فوجدت مسائل الكتاب مشتبكة، وفنونها مختلطة، فرأيت أن أضم كل جنس إلى بابه، وألحقه بنوعه وأكفي طالب الفائدة تكلف الطلب، وأخفف عنه مؤنة التعب، وقد أبدلت ألفاظا غير مستعملة في هذه الناحية بما هو أظهر منها، وكان الشيخ الجليل ممن لا يخفى عليه ذلك، غير أن مقصوده كان جمع ما وجده من الفتاوي في الرقاعات، وما سمعه من (الأجوبة للسائلين)، وما ظفر به من إثبات الأجوبة والردود على المخالفين، دون ترتيب المسائل، والتفرقة بين (المتباين) منها والمتماثل.
وقد اجتهدت في الترتيب والتهذيب، ومن الله نستمد المعونة فهو ولي كل نعمة.
صفحه ۱۸
كتاب الطهارة
باب الاستنجاء
التعوذ قبل الإشتغال بقضاء الحاجة، والاستنجاء من النجاسة واجب على من أراد الصلاة، ومن انتقضت طهارته من غير خارج فالاستنجاء مستحب له غير واجب.
ومن لا يمكنه غسل يديه عند نجاستهما إلا بأن يكفي الإناء ويصب الماء على إحدى يديه ويغسل به الأخرى جاز ذلك؛ لأن اليدين بمنزلة العضو الواحد، ولم يروى عن السلف عليهم السلام خلاف ذلك، ولا ما أحدث الناس من المبازل والأنابيب.
ويكره البول في الماء الراكد لورود النهي، فأما في الجاري والبركة الواسعة المتدافعة فلا يكره إلا أن يتعمده فيكون استخفافا بما عظم الله نفعه.
ولا تستقبل القبلة ببول أو غائط أو جماع؛ فإن فعل سهوا استغفر الله؛ لأنه تكرم لما كرم الله، فما نافاه لم يجز، وكذلك الاستدبار والاستقبال أشد؛ لورود النهي في ذلك أعني استقبال القبلتين، والشمس، والقمر، والآيات الباهرة، ولا يستجمر بالمنهي عنه، كالعظم والفحم فإن لم يجد إلا التراب والرمل جاز، فإن خاف أن يتنجس استنجى بما وجد من ذلك.
ولا يكره حمل الخاتم وغيره مما فيه اسم الله تعالى عند قضاء الحاجة.
صفحه ۱۹
باب ذكر الوضوء
نية الوضوء في أول الوضوء، وهو عند المضمضة والاستنشاق، وعند يحيى - عليه السلام - أوله الإستنجاء، والوضوء يكون بعد إزالة النجاسة، ومن خاف أن لا يتمكن من الوضوء للصلاة في وقتها لم يجب عليه الوضوء قبل الوقت، ومن ترك المضمضة والاستنشاق لكونهما عنده غير واجبين ثم رجع إلى القول بوجوبهما وهو على وضوء أعاد الوضوء لصلاة الوقت وما بعده، [وإن كان تمضمض واستنشق على وجه السنة لا تجب الإعادة].
[حاشية: ومثله حصل المشائخ لمذهب يحيى والقاسم والمؤيد عليهم السلام، وذكر الشيخ أحمد بن أبي الحسن الكني رحمه الله أنه إنما يعيد الوضوء لما يستأنف دون ما صلى سواء كان الوقت باقيا أو ماضيا].
(ص) ومن نوى بوضوئه فريضة معينة أو رفع الحدث أو استباحة الصلاة جاز أن يؤدي به ما أراد من أداء وقضاء وغيرهما، ويمسح على الجبائر والجرح إذا لم يتمكن من غسل أعضاء الوضوء، ومن كان به جرح يمنعه من الوضوء فإنه يغسل ما يمكنه غسله ويعصب الجرح ويمسح عليه، وإن كان في غير أعضاء الوضوء كان كالدم من المستحاضة.
ومن كان به قروح يخشى من الماء مسح عليها أو على الخرقة التي تترك فوقها وصلى به ما شاء من الصلاة، والأقطع يجب عليه أن يستعمل الماء إلى حيث جرت العادة بوصول آلته إليه.
ومن تمضمض ثم وجد بين أسنانه شيئا أجزاه، ويجزي مج الماء في الفم عن العرك في الوضوء والغسل.
وإذا تقدم المتطهر ليتوضأ أجزاه وإن لم يجدد النية .
صفحه ۲۰
[((ح)) ومثله ذكر أبو العباس الحسني في (جامع الفقه) لأنه قال فيه: "إن أقل النية حصول العلم بما يفعله" وقد نص على معناه محمد بن يحيى - رضي الله عنه -]*.
(ص) لأن أفعال الوضوء المخصوصة لا تحصل إلا بالنية وإنما سهى فظن أنه لم ينو، وإذا كان في بعض أعضاء الوضوء نجاسة وأراد الوضوء فلا بد أن يغسله للنجاسة ثم يغسله للوضوء بعد ذلك.
ولا يدخل بعض الغسل في بعض لاختلاف الفرضين؛ [لأن أحدهما يفتقر إلى النية] دون الآخر، ومن تعذر عليه غسل الفرجين لزمه غسل أعضاء الوضوء ولا يتيمم.
ولا يتيمم وإن كان العذر في أعضاء الوضوء تيمم ولم يغسل البعض وييمم البعض؛ لأنه جمع بين البدل والمبدل.
ومن ترك التسمية عامدا إلى آخر الوضوء وجبت عليه الإعادة لقوله - صلى الله عليه وآله -: ((لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)) فنفى حكم الوضوء الشرعي مع عدم الذكر فبطل.
ويتوضأ وإن خشي فوت الوقت ولا يتيمم، ومن لا يجد ماء يكفي للوضوء بكماله تيمم، فإن كان في الأعضاء علة لا يرجى زوالها كانت في حكم المعدومة وجاز استعمال الممكن على أن في هذا نظر، وهو ما ذكرنا في غير هذا الموضع من أنها إذا كانت مجروحة عصب على الجراحة ومسح عليها بالماء عند وجوده أو التراب عند عدمه والله الموفق.
صفحه ۲۱
ونقصان الطهارة للعذر بمنزلة كمالها، ويصلي بها الصلوات الكثيرة بخلاف قلة الماء لأنه يعدل إلى التيمم؛ لأن علة العضو بمنزلة عدم العضو، والوضوء قبل وقت الصلاة شرط لصحتها فتصح وإن كان نفلا، والوضوء طاعة (وليس بعبادة) كالزكاة والجهاد؛ لأن العبادة ما يفعل على وجه الخضوع والتذلل، كالصلاة والحج والتيمم، وتجب النية جملة دون التعيين في الوضوء والاغتسال.
ويبتدئ الرجل بغسل اليدين من الكفين، والمرأة من المرفقين.
ولا يجب في الوضوء مسح ما استرسل من اللحية بخلاف الغسل من الجنابة، ولا يزيد على الثلاث في الغسل، والزيادة تعد وإساءة وظلم.
ولا يصح وضوء المشرك، وتمسح الرقبة بماء جديد.
(ص) وقوة جري الماء تقوم مقام الدلك، والتقدير في اعتماد الماء الذي تطهر به النجاسة ويقوم مقام الدلك إنه لو كان لما (وقع عليه الماء نجاسة لها لون لزالت) لقوة جري الماء.
ولا يجب على من حلق شعره أو قلم أظافره أو قشر جلده بعد الوضوء إمرار الماء ولا يستحب.
ولا ترتيب بين الاستنجاء والوضوء، فمن توضأ ثم استنجى صح وضوءه إلا أن يخرج منه شيء لأنه لا ترتيب بين الوضوء وغسل النجاسة وليسا من أعضاء الوضوء.
[(ح) والأولى أن يجب الترتيب في ذلك؛ لأنه لا بد من أن يخرج شيء عند الغسل فلهذا يجب الترتيب بخلاف ما إذا كانت النجاسة على غير السبيلين].
(ص) وصرف النية في أثناء الصلاة والصوم لا يفسدهما بخلاف الوضوء فإنه يفسده سواء صرفها إلى واجب أو تطوع.
صفحه ۲۲
وإذا شك المتوضئ وكان غير مبتلي بالشك أعاد من الموضع المشكوك فيه، وإن كان مبتلى غلب ظنه وإن اعتدل بنى على الأقل ولا حكم للشك فيما مضى ولا يزول اليقين إلا بيقين.
والشك في الترتيب لا يوجب الإعادة بعد الوقت بخلاف الشك في غسل العضو رأسا.
وفي خبر الذي اغتسل فمات أحكام:
منها: أن الإنسان إذا شك والسؤال يمكنه وجب عليه السؤال.
ومنها: أنه لا يجوز أن يفتى بغير علم.
ومنها: أن من خشي المضرة من استعمال الماء تيمم.
ومنها: وجوب المسح على الجبائر.
ومنها: أن المسح يقوم مقام الغسل في تلك الحال.
ولا يجب إزالة الدهن عن العضو إلا أن يكون جامدا يمنع من وصول الماء إلى العضو، ومن لم يمكنه الوضوء بنفسه وجب عليه طلب من يوضيه بأجرة أو غير أجرة إذا تمكن من النية، فإن رأى غيره على هذه الصفة وجب أن يوضيه، ويلف يده بخرقة لإزالة النجاسة كغسل الميت.
ولا يجوز الوضوء بالماء مع خشية التلف من العطش، فإن توضأ والحال هذه لم يجزه، فإن خشي العطش أو المرض لم يجب أن يتوضأ، فإن توضأ أجزأه، ومن نكس وضوءه ست مرات صح وضوءه.
ولا يتوضأ من آنية الذهب والفضة، ولا من المفضض والمذهب.
ولا تقدير في الماء الذي يتوضأ به إلا بالكفاية، وهو تعميم الجسد بحيث يجري بعض إجراء الماء إلى بعض.
صفحه ۲۳
باب ذكر ما ينقض الوضوء
من خرج منه القيء دفعات كل دفعة دون الدسعة وهي ملء الفم لم ينتقض وضوءه ولا يحكم بنجاسة ما هذه صفته، ومن قال لغيره: يا كلب، أو يا ابن الكلب أو يا حمار، أو يا ابن الحمار انتقض وضوءه بأذى المسلم، ولا يعتبر صلاح الأب ولا فساده، فإن كان الأب كافرا وتعمد أذاه الإبن لم يجز، فإن كان الإبن فاسقا والأب مؤمنا وذم الإبن والأب يتأذى بذلك فسد وضوءه لأنه آذى مسلما.
ومن عزم على كبيرة وكان من نزاع النفس فلا حكم له، وإن صمم فالإرادة إثم ولا نقطع على كونها كبيرة، وخروج الدم جامدا من الأنف لا ينقض الوضوء.
والمتوضئ إذا ابتلي بكثرة الرياحات بحيث لا ينضبط وضوءه كان حكمه حكم المستحاضة، ومن كثر خروج دمه من الأسنان بحيث لا يرقى فحكمه حكم سيلان البول، وإن كان خروجه حينا بعد حين فإنه يتلوم إلى آخر الوقت ثم يتوضأ ويصلي.
والمزاح بالكذب ينقض الوضوء؛ فإن كان حكاه عن غيره وهو يظنه صدقا لم ينتقض وضوءه، فإن انكشف أنه كذب بين لمن أخبره لتزول التهمة عنه.
وحد الكذب هو الخبر عن الشيء لا على ما هو به، ومن تعمد القهقهة في صلاته بطل وضوءه لكونها معصية، وإن لم يتعمد لم يبطل.
والبلغم الخارج من المعدة والرعاف والدم من الجوف والفم حكمهما حكم سائر ما يخرج من سائر الجسد، وما ينزل من الدم في الأنف إلى موضع الغسل وكذلك من الأذن ينقض الوضوء، وكذلك القيح وما أخذ بالقطنة من الجراحة بحيث لو تركه لسال ينقض الوضوء، ويجوز أن يمنع البول من الخروج بالقطن وغيره.
صفحه ۲۴
وإذا خرج الدم من مواضع متفرقة بحيث لو اجتمعت لسالت لم ينقض الوضوء، وكذلك إذا خرج من موضع واحد في أوقات متفرقة، وما مصه العلق لا ينقض الوضوء إلا أن يخرج بعده قطرة، والظاهر في كل معصية أنها كبيرة لأنه لا يفصل بين المعاصي لمجرد الصورة.
[(ح) وعلى هذا أيضا يدل كلام البستي فإنه قال: "إذا فعل معصية لا يعلم أنها كبيرة تنقض الوضوء ما لم يعلم أنها صغيرة"].
(ص) والإقدام على الكبيرة ينقض الوضوء بخلاف الاستمرار عليها فإنه لا ينقضه للإجماع على صحة صلاة الفاسق، والاستمرار على الكفر لا تصح معه الطهارة.
صفحه ۲۵
باب ذكر الغسل
(غسل النجاسة) تجب للصلاة لا للحدث، ونية الغسل في أوله، وتاركها سهوا يعيد في الوقت ولا يجب عليه الإعادة بعد مضيه، فإن تذكرها وقد بقي من البدن شيء لم يغسله ونوى أجزاه ولو قل.
[(ح) ومثله عن القاضي زيد].
(ص) فإن شك في النية بعد الفراغ من الغسل فلا حكم له، والغسل لا يجب إلا على من تيقن الجنابة، ومتى توارت الحشفة فقد التقى الختانان، فذكر ذلك تأكيدا ويجب عنده الغسل.
وإذا رأت المرأة الجماع في النوم وكملت اللذة بدفق الماء لزمها الغسل كالرجل، ومن اغتسل للجنابة لا غير أجزاه عن الجمعة والعيد.
وإذا وطئت الصغيرة وجب على زوجها منعها من مس المصحف والقراءة ودخول المسجد إلى أن تغتسل كالبالغة.
وفي جنب وحائض وميت معهم ما يكفي لأحدهم، إن الحائض إن كانت لا زوج لها فالميت أحق لتضيق فرضه، فإن تضيق وقت الجميع فالحائض أولى، فإن كان الماء لأحدهم لم يصح أن يبيحه لغيره، وإن كان لجملتهم لم يغتسل به أحد الحيين ولهما إباحته لغسل الميت.
ولا يجب أن يغسل كل واحد إلا حيث بلغ نصيبه؛ لأن غسل بعض جسده لا يزيل عنه حكم الجنب، فإن كان ملكا لغيرهم وأباحه لواحد منهم غير معين كان لمن سبق إليه، والمجنون إذا أفاق والكافر إذا أسلم لم يجب عليهما غسل الجنابة.
(ح) ومر له: إن الكافر يغتسل إذا أسلم.
(ص) ومن احتلم ولم ينزل لم يجب عليه الاغتسال.
ومن وجد في ثوبه منيا ولم يذكر جنابة فلا غسل عليه؛ لأن المني قد يخرج لغير شهوة.
ويستحب للجنب غسل اليدين، والمضمضمة والإستنشاق للأكل والنوم.
صفحه ۲۶
ويجب الغسل من التقاء الختانين وإن لم ينزل لحديث أزواج النبي - صلى الله عليه وآله - فإذا لم تبلغ يد المغتسل إلى بعض جسده أجرى الماء وأجزاه، وللجنب والحائض أن يسميا، ولهما أن يقرءا دون ثلاث آيات ويحملا المصحف بحمائله، ويعلقا التعاويذ التي فيها الآيات وكذلك الخاتم،.
إذا غسل الجنب بعض جسده دون سائره لعذر لم يجز له بعد الفراغ من الصلاة دخول المسجد ثانيا، ولا قراءة القرآن سواء كان على وضوء أم لا.
وللمحدث مس المصحف، ومن اغتسل للسنة ثم ذكر أنه كان جنبا أعاد الغسل للجنابة.
وقال في موضع: إن نوى الإغتسال لصلاة الجمعة أو العيد أو أي صلاة أجزاه للجنابة.
صفحه ۲۷
باب ذكر النجاسات وإزالتها
الدم الباقي بعد الذبح إن كان لا يسيل فلا حكم له، وإن كان سائلا فإنه يكون نجسا بنفسه، فإذا زال لم يجب غسل مكانه، ولا يجب غسل اللحم من أثر الدم.
وإن خمد الدم بالإنضاج وجبت إماطته بعينه ولم ينجس ذلك القدر بمجاورته، وحكم الدم واحد سواء كان من المعدة أو غيره في أن سائله نجس، وما لم يسل لا يكون نجسا.
ولا ينجس من القيء إلا ما نقض الوضوء؛ لأن تنجيسه شرعي ولم يرد الشرع إلا بتنجيس الذارع وهو ملء الفم، ولا يجب غسل الآثار إلا بالماء، فإن (غسل ما يقلع) الآثار مع الماء فحسن غير واجب.
وإذا نجست بقعة من المسجد نجست وحدها، فإن طين وكان طينه غليظ كالردم طهرت، وإن كان رقيقا لم تطهر، وإن طين مرارا كثيرة في أوقات متراخية فلا تمتنع طهارته لأن للطين حكما في التطهير على بعض الوجوه، كالماء لقول النبي - صلى الله عليه وآله -: ((الأرض يطهر بعضها بعضا)).
وإذا وقعت النجاسة في التراب والطين بحيث لا يظهر لها أثر لأجل الإختلاط حكم بطهارة التراب والطين وصار ذلك كما لو وقعت النجاسة في الماء الكثير بحيث لا يظهر لها أثر من لون ولا ريح ولا طعم لعلة أن التراب أحد المطهرين.
والقليل من الماء خارج من هذا الاعتبار للنص، والنص ورد في الماء، والتراب مقيس عليه في قوله - صلى الله عليه وآله -: ((الماء طهور المؤمن لا ينجسه إلا ما غير لونه أو ريحه أو طعمه)).
وقال - صلى الله عليه وآله -: ((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا)) فاتفقا في الاسم والحكم، واستمر القياس، وصحت العلة، وتماثل الحكم.
صفحه ۲۸
فإن كانت الأرض المتنجسة صلبة أثيرت حتى تختلط الأجزاء بحيث لا تظهر للنجاسة عين ولا ريح فيبطل حكمها بهذا الاختلاط، والنجاسة في الطين القليل قليلها كقليل النجاسة في الماء القليل.
وتقدير القليل قلتين* كالماء؛ لأن التراب أحد المطهرين، فإن أصابت النجاسة نصف الأرض وجب تجنب تلك الأرض لاستواء الحظر والإباحة فيغلب الحظر، وإن أصابت دون النصف وجهله تحرى، فإن استوى الحال ولم يجد سواها صلى في مقدار الثلث على أنه لا نجاسة فيه.
ولكثرة أجزاء الأرض تأثير في خفة الحكم وكذلك قليل النجاسة بحيث لا يظهر لها ريح ولا لون ولا طعم بل تذهب في أثناء الأرض فإن حكم النجاسة يسقط؛ لأن الأرض أحد الطهورين.
ورطوبة أهل الذمة ليست بنجسة ما لم تمسهم النجاسات من الخمر وذبائحهم ما أشبه ذلك، وكذلك ذبائح المشبهة منهم؛ لأنها بمنزلة الميتة فتنجس رطوبتهم لمجاورة النجس لا للكفر؛ لأن الظاهر أن المسلمين كانوا لا يجتنبون سمون المشركين وألبانهم ويعلم ذلك من بحث الآثار ولأن رسول الله - صلى الله عليه وآله - أنزل وفد الطائف المسجد وهو بعد الفتح، وأكل المسلمون رطوبات أهل خيبر يوم فتحها.
صفحه ۲۹
وإذا ظهر المسلمون على دار الحرب حكم بطهارة ما فيها لما علم بأن رسول الله - صلى الله عليه وآله - أتى المدينة ونواضحهم تسنى بجلود ذبائحهم وذبائح غيرهم من الكفار (وقوتهم وعروتهم وأبنيتهم) من الجلود، فما أمرهم بإبعاد شيء من ذلك ولا تبديله، بل طهرت حكما بالإسلام، ومثل ذلك لا ينكر أن تنقلب عين النجس بالإسلام في الحال طاهرة كما نعلمه في الكافر لأنه نجس عند الهادي - عليه السلام - كالكلب والخنزير والميتة، فمتى نطق بالشهادتين انقلب طاهرا في الحال حكما مع كون العين باقية، ورطوبة الصبي طاهرة ولعابه ما لم يعلم عليه نجاسة، ولا يجب غسل اليدين من الغسل بهما النجاسة، بل يطهران مع زوال النجاسة إلا أن تكونا نجستين أولا، ويطهر الدم بزوال عين الدم وكل ما وقع فيه أيضا مما يشبهه يطهر بزوال عينه.
والمطر يطهر الأرض ولا حاجة إلى السيول في ذلك، فإن بقي عين النجاسة مشاهدا فحكمه باق وينجس ما قاربه دون ما عداه.
وينجس ما جاور خرطوم الكلب إذا خرج من صبره الثمر، وغسل الثوب يصح من الفاسق، وكل جديد يحكم بطهارته في دار الإسلام ما لم يتعين فيه النجس.
وإذا غسل الشيء المتنجس فوقع ماؤه على موضع صلب طهر ما وقع عليه ذلك الماء، فإن كان رخوا بحيث يستقر فيه الماء ولا ينشفه لم يطهر.
[وإذا وقع الماء على النجاسة وأزال عينها قام مقام غسلها].
والمني نجس من المتوضئ وغيره، فأما النبي - صلى الله عليه وآله - فلا يمتنع حكم الله سبحانه بتطهير مائه حيا وميتا، كما جاز له دخول المسجد جنبا.
صفحه ۳۰
وحكم ولد المشرك كحكم أبيه عند من يرى نجاسة الأب، فإذا بلغ حكم عليه لأجل اعتقاده.
ومن نجس فمه لم يأكل ولم يشرب حتى يغسله، فإن لم يتمكن من غسل فمه طهر فمه بمرور يوم وليلة قياسا على أفواه البهائم.
وجلود ذبائح الكفار نجسة لا تطهر بالدباغ وهي كالميتة ويجوز الانتفاع بها من غير ترطيب.
وفي دار ومحلة تمشي فيها الكلاب وغيره، فيصيب الإنسان من وحلها شيء إن الاعتبار بالكثرة والقلة وظهور النجاسة كوقوع النجاسة في الماء؛ لأن التراب أحد الطهورين، وإذا كان في ذيل الفرس نجاسة من بوله أو روثه وغمسه في الماء الكثير ورش به إنسانا كان نجسا.
وإزالة النجاسة واجبة على من تمكن قبل كل شيء، والمعتبر في تنجيس الطين بالزبل وشبهه أن يغلب عليه بحيث يظهر فيه ويتغير به الطين كما نقول في تغيير الماء الكثير سواء للخبر في ذلك.
وما يحكى في خبر قيس بن عاصم من استعمال السدر، وفي خبر غيره في الجنابة ((أمطه عنك بإذخره)) فأراد صلى الله عليه المبالغة في إزالة معظمه لدفع مضرة الاستقذار؛ لأنهما غير مزيلين بالإجماع على انفرادهما، ولو كان متعبدا بإزالة العين لوجب قطع الموضع.
فإن قيل: فيه ضرر.
قلنا: وكذلك في تطلب أكثر المزيلات ضرر.
ومن به جرح سائل أو سلس بول وجب عليه أن يتحرز من سائر النجاسات، ولا يجوز مباشرة المسجد بالنجاسة، ولا ينجس الفم بوقوع بعض السن فيه إلا أن يخرج من أصله وهو كأعالى القرون.
صفحه ۳۱
[(ح) وفي ظاهر كلامه - عليه السلام - دلالة على أن طريقته كطريقة أبي حنيفة في أن العظام ليس فيها حياة، وهذا في العظام قوله الأخير أنه لا حياة فيها فلا تكون نجسة.
وأما ما ذكره في أعلى السن فلأنه مما لا يؤلم قطعه فيكون كأعالي القرون وأعالي الشعر وروس الأظفار].
(ص) والماء الذي على رأس الجرح حكمه حكم الدم، فإذا انعقد الدم على رأس الجراحة كان طاهرا (بالإستحالة).
صفحه ۳۲
باب ذكر المياه
حد الماء الكثير قلتان من قلال هجر وهو خمسمائة رطل، وهو الذي صحت عندنا الرواية فيه عن النبي - صلى الله عليه وآله - فما غير لونه أو ريحه أو طعمه من النجاسة نجسه، وكذلك الماء الجاري فإنه لا ينجسه إلا ما غير أحد هذه الأوصاف من النجاسة، والجري يلحقه بالكثير في الحكم، فإن تغير بظهور النجاسة ثم زالت رائحتها ولونها وطعمها فإن زوال أمارتها تعيده إلى حكم الطهارة الأصلية.
والماء النجس إذا اجتمع أولا فأولا حتى صار كثيرا، فإن غيرته النجاسة في لون أو ريح أو طعم كان نجسا وإلا فهو طاهر لقول النبي -صلى الله عليه وآله-: ((الماء طهور المؤمن لا ينجسه إلا ما غير لونه أو ريحه أو طعمه))، ويجوز الوضوء بفضل طهور غيره.
ويجوز الوضوء من ماء في أرض غيره وإن كان محاطا عليه إذا لم يضر بزرع ولا غيره، ولا اعتبار برضى صاحب الماء إذا لم يضر به للوضوء والغسل والشرب.
ولا يجوز الوضوء بالماء المغصوب، وإذا غسل اليدين ثلاث مرات بثلاث مياه صح ذلك.
[(ح) هذا إشارة إلى اعتبار العدد دون غالب الظن].
(ص) وموت الحوت في الماء لا يفسده كملح البحر بخلاف ملح البر، ومن غسل بعض العضو بالماء (فتغير الماء بذلك) جاز إتمام العضو بذلك الماء ولو لم يجز ذلك لم تنعقد طهارة أصلا.
صفحه ۳۳
والماء المستعمل في الوضوء تزال به النجاسة ولا يستعمل لوضوء آخر، وسؤر من يظهر الشهادتين طاهر يجوز التوضي به ولم يرد الشرع بوجوب تجنب رطوبة من لا يعرف أحكام الطهارة منهم ولا أقل من أن تكون رطوبتهم كرطوبة البهائم، ولا يجب تجنب أسآرها وكذلك السباع خلا الكلب والخنزير، وقد كان زيد بن علي - عليه السلام - يتوضأ ويشرب من سؤر بغله، وكذلك حديث الهر وأن رسول الله - صلى الله عليه وآله - كان يصغي لها الإناء.
ولما سئل رسول الله - صلى الله عليه وآله - عن الحياض بين مكة والمدينة تردها السباع فقال: ((لها ما حملت في بطونها وباقيه لنا طهور))، فإذا لم تتعين نجاسة لم يجب تجنب رطوبة العوام، وإذا نجس الماء القليل نجس ما باشره وجاوره، ولو كسر رجل أعوادا فخرج منها من الماء ما يكفي لوضوئه أجزاه الوضوء به؛ لأنه ما لم يختلف فيه طعم ولا لون ولا ريح، والعيدان للماء بمنزلة القنا ولا فرق بين أن يجريه الله تعالى في عود أو حجر.
[(ح) أراد بذلك - عليه السلام - الماء الذي يقطر من سرع العنب إذا كسر وقطر منه من الماء ما يكفي للوضوء].
(ص) ويجوز الوضوء بالماء الذي خالطه القرظ ما لم يتغير اسم الماء، فإن كان القرظ غالبا وقل ما قرظ لم يجز، وكذلك حكم ما خالطه من الأشياء الطاهرة، فأما إذا كانت المخالطة في مقره أو ممره كعين تخرج من الشب والكبريت والزرنيخ أو نبت فيه طحلب أو لطول المكث أو تفتت فيه حيوان خلق في الماء وعاش فيه فإنه طاهر مطهر، وكذلك حكم العنبر فإنه يجزي فهو بمنزلة الطحلب.
صفحه ۳۴
ولا يستنفع من الماء النجس إلا بما يؤدي إلى استهلاكه كسقي الزروع وبل الطين وما أشبهه ويعفى عما تحمله الذباب والريح في المياه والمساجد والأبدان والثياب.
وإذا ذهبت رائحة ماء الورد واختلط بماء ولم يتغير أحد أوصافه فإن كان ماء الورد أقل من النصف جاز الوضوء به وإن كان النصف فما فوقه لم يجز الوضوء به لتغليب الحظر على الإباحة.
ويتحرى في ثلاثة أواني ولا يتحرى في اثنين إذا كان واحد نجسا، وإذا كانت آنية في بعضها ماء ورد وماء كرم وماء مستعمل وماء مطلق توضأ بالجميع ولم يتحر فيها، ومن توضأ بماء حلال معتقدا لكونه مغصوبا أو نجسا لم يصح وضوءه.
[(ح) هذا مثل قول المؤيد بالله].
(ص) وإن كان عنده أنه مملوك له أو مباح فكان مغصوبا أجزاه وعليه قيمة الماء، وإذا غلب على ظنه لخبر مخبر أن الماء نجس لم يتوضأ به سواء كان المخبر رجلا أو امرأة.
والنجاسة إذا وقعت في الماء الكثير لم ينجس موضعها.
وما يتضح من النجاسة عند وقوعها في الماء الكثير لا يكون نجسا إلا أن تظهر فيه صفة النجاسة.
[(ح) هذا كمذهب الناصر - عليه السلام -]، فإن وقعت في الماء القليل وانفصلت عنه في الحال ولم تخالطه لم ينجس، كمن يرمي بحجر في الماء فينفصل من دون استقرار، كما لو وقعت نجاسة على المصلي ثم ارتفعت في الحال قبل أن يدخل في ركن آخر كما فعل بعض المشركين بالنبي -صلى الله عليه وآله- وهو في الصلاة.
وما يفضل من ماء البئر المتنجسة بعد النزح من البلل معفو، ويحكم بطهارة رأس البئر ووسطها والدلا والرشا قياسا على الخمر إذا غلا ثم عاد خلا فإن الجميع طاهر كذلك هذا.
صفحه ۳۵
والنازح إذا وقع عليه من الماء النجس دون الطاهر شيء غسل بدنه وثوبه، بخلاف وسط الحبل فإنه يقع عليه النجس ثم الطاهر بعده فيطهر.
وأما البئر فيطهر النابع منها إذا جف المتنجس منها سواء نزح أم لا إلا أن يبقى جرم النجاسة.
والماء المنفصل بعد غسل أعضاء الوضوء ثلاثا غير مستعمل، ويجوز الوضوء به، وكذلك ما فعل للتبرد.
والماء المستعمل طاهر لا يتطهر به ولو بلغ قلتين*.
(ح) ومثله ذكر أبو الفضل للناصر، وذكر صاحب (المرشد) (لمذهب الناصر) أنه يجوز التطهر به ومثله في (المهذب) لأصحاب الشافعي.
(ص) ولو صب رجل ماء من كوز على أيدي جماعة يغسلونها وهي متنجسة وبعضها فوق بعض أجزا ذلك ما لم يتغير الماء لأنه ماء جار، وكذلك الحكم لو استرد جماعة يستنجون بماء قليل جار بحيث لا ينظر بعضهم بعضا، فإن كان جانب الماء مستقر فيه وهو متصل بالجاري جاز الوضوء به وغسل النجاسة، وإن كان قليلا لو انفصل لأنه من جملة الكثير.
صفحه ۳۶
باب ذكر التيمم
المسافة التي يجب طلب الماء فيها بنفس الإنسان هو الميل فما دونه؛ لأنه بهذا القدر يكون حاضرا وبالزيادة عليه يكون مسافرا، فلو ألزمناه ما زاد عليه لما وقف على حد إلى أن يفوت الوقت.
ومن لا يتمكن من الوضوء لبعد الماء وخشية فوات الصلاة أو تعذر عليه استعماله تيمم في آخر الوقت.
وحد الإجحاف في شراء الماء للوضوء والغسل الذي يجوز عنده التيمم هو أن يؤثر في حال من يشتريه وهو يختلف بأحوال المشترين.
ومن عاين الماء (وخشي فوت) الصلاة إن انتهى إليه وتوضأ به فعليه الوضوء وإن فاتت صلاته.
[(ح) ومثله ذكر الأستاذ لمذهب الناصر للحق - عليه السلام -].
(ص) والجنب إذا لم يتمكن من الإغتسال وهو واجد للماء ويمكنه الوضوء فإنه يغتسل ما أمكن ثم يتيمم لرفع الحكم في تلك الحال عن الجملة، (ويجوز التيمم) بتراب المسجد ما لم يضر بالمسجد؛ لأن الأرض مسجد وطهور لمحمد - صلى الله عليه وآله - ولأمته خصه الله تعالى بهذه الفضيلة، ومن لا يجد من الماء ما يكفي لجميع الأعضاء فإنه يتيمم سواء كان يكفي الأقل أو الأكثر.
ويجب طلب الماء بعد دخول الوقت إلا أن يخشى فوتها ولا يجب طلبه قبل الوقت، فإن تعذر وجوده تيمم وصلى، وكذلك حكم الخائف.
وإذا كان الماء لا يكفي الجنب للغسل أو المحدث للوضوء أزال النجاسة منه وتيمم، (ولا يجب غسل بعض الأعضاء) إذا لم يكن يكفي جميعها.
[حاشية: سوى عليه السلام بين الوضوء والغسل في ذلك، والشيخ أبو جعفر فرق بينهما، فقال في الوضوء مثل ما ذكره المنصور بالله هاهنا، وفي الغسل اعتبر الأغلب].
صفحه ۳۷