ثانيهما من حيث كونه غبيًا، والعلم به من أوصاف الربوبية، والعبد مرتاح إلى ذلك كارتياحه إلى القدرة والعلو، فكان للناس ولوع بذلك وتشوف إليه لما ذكرنا وتشوف إلى من يظهر عليه شيء منه لاستلذاذ الغرائب، واستعظام العجائب، واستنجاح المآرب، حتى إن العامة مُطبِقون على جعل ذلك آية لثبوت ولاية الولي من غير تعريج على المستقيم منه والسقيم، وكذا صاحبه في نفسه، فنشأ من ذلك كله لعوام المتوجهين شغف به وحرص عليه لأول قدَمٍ، فكثرت فيه الدعوى، وعمت به البلوى، والتبست السبل بالمنهاج، وغطى على شمس الخصوصية دخان الاستدراج، رأينا أن ننبه على وجوه الغلط في الأوجه السالفة بقدر ما حضر في الفكر ليتأتى للإنسان التحرز من مغالطة نفسه ومغالطة غيره له، " والله أعلم " وسمعت الشيخ أبا عبد الله ابن ناصر ﵀ يقول: قال سيدي أحمد ابن إبراهيم ﵀: لا تكونوا كذابين ولا يلعب بكم الكذابون.
فنقول: أما ما يكون من جهة المنام فيمكن الغلط فيه من جهات: منها أن لا يضبط " أمور " نفسه، فإن أمور النوم قلما تنضبط، فيتوهم أنه رأى صورة الشيء أو المثال الدال عليه أو خوطب به أو نحو ذلك والأمر خلافه.
ومنها أن يرى صورته لكونها حاضرة في خياله، فإن من أكثر تصور الشيء لشغفه به أو لاستغرابه أو للخوف منه أو عليه ربما تخيله بذلك السبب، ولا حاصل لذلك كما في قصة الذي بشر الملك بطول العمر وأنه بقي في عمره أربعون سنة وأن أمارة ذلك أن يرى في الليلة القابلة كذا لصورة غريبة صورها له، فظل الملك يقلب تلك الصورة في وهمه، فلما أمسى رآها فأصبح مصدقًا بكلام ذلك الشخص فنال الحظوة منه وهو كذاب، وما زال العامة يقولون: إن فلانًا يحلم بفلان أي لخوف منه أو لمحبته، فيكثر ذكره نهارًا ويحلم به ليلًا.
ومنها أن يرى مثالًا فيعبره بذلك ويخطئ في العبارة ويبني على الخطأ، وقد لا يذكر المنامة بل يقتصر على تفسيرها على زعمه إما حُسْنَ ظن بنفسه أن الأمر هو ذلك، وإما إيهامًا للناس " أنه " إنما أخبر عن مشاهدة لا عن منام ليعد من الأولياء أهل الكشف، فإن المنامات لا تختص بهؤلاء بل تقع لسائر الناس حتى الكفرة، ولذا وقع الحديث: " الرُّؤْيَا الصّالِحَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ ... وفي الحديث أيضًا: " إذَا تَقَارَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا المُؤْمِنِ تَكْذِبُ ".
ومنها أن يسمع خطابًا في منامه ولا يدري ممن سمعه فيبني عليه ظنًا منه أنه من الله تعالى أو من ثقة " من " عباده، وإنما هو شيطان يلعب به، وكذا قد يكون كل ما ذكر شيطانيًا، فقد صح أن " الرُّؤْيَا مِنَ اللهِ وَالحُلُمُ مِنَ الشَّيْطَانِ ".
وقد يرى الشخص المخاطب فيظنه من أولياء الله أو فلانًا بعينه منهم، وإنما هو شيطان يتراءى به، وقد يسمعه من ولي من الأولياء ويبني عليه فيخرج " خطأ " فإن الولي غير معصوم من مثل هذا، وإذا جاز على الولي الوقوع في هفوة من كبار الذنوب عمدًا بلا اضطرار فكيف بالخطأ؟ وسنذكر بعد وجوهًا من الخطأ في الكشف، و" قد " يكون ذلك من الولي تصرفًا في المملكة بتولية أو عزل أو نحو ذلك فينقض عليه ذلك غيره من أهل الحل والعقد بعدما حمله السامع وتحدث به، وقد يحضر أول كلام من مجلس الصالحين في أمر ثم يفوته آخره وهو بخلاف ما سمع إلى غير ذلك.
واعلم أن مواقع صدق الرؤيا وشروط اعتبارها مشروحة في فنها، وإنما قصدنا الإشارة إلى بعض ما يقع للناس مما ينبغي التحرز منه.
وأمّا ما يرجع إلى حال الغيبة فيمكن أيضًا أن يقع فيها الخطأ بتلاعب الخيال أو تلاعب الشيطان تَرائِيًا وإلقاءً، وقد تكون " غيبته " بوارد رباني أو شيطاني، وذلك مشروح في محله عند أهله.
1 / 61