ولم يزل الحازمون من أهل الدين يهربون منها، ولذا قال ﷺ: " إنّا لاَ نُوَلِّي أمْرَنَا هَذَا مَن سَألَهُ أوْ مَنْ أرَادَهُ " إما رعيًا للغالب من أنه لا يطلبه إلاّ شهوانيّ أو مضيِّع للحزم، وإما استنانًا ليتبع عند غلبة الشهوة وضعف الديانة كأزمنتنا هذه.
وقال أبو عمر بن عبد البر: تكلم يومًا معاوية ﵁ فقال: أما أبو بكر فهرب عنها وهربت عنه، وأما عمر فأقبلت إليه فهرب عنها، وأما عثمان فأصاب منها وأصابت منه، وأما أنا فداستني ودُستها، قال أبو عمر: أما علي فأصابت منه ولم يصب منها، قلت إن أبا بكر هرب عنها من أول مرة، وقد قال يوم السقيفة ووضع يديه على عمر وأبي عبيدة: ادفعوا أحد هذين الرجلين، قال عمر: فلم أكره مما قال غيرها، فهما هاربان منها.
وقال عمر ﵁ بعد ذلك في قصته مع أويس القرني من يأخذها بما فيها؟ يا ليت عمر لم تلده أمه، وقال في آخر رمق: يا ليتني تخلصت منها كفافًا لا لي ولا عليّ، هذا مع استقامته وعدله الشهير، حتى صار يضرب به المثل في متابعة الحق، وقد شهد له ﷺ بذلك الحديث المشهور، وقال له أيضًا: " مّا سَلَكْتَ فَجًّا إلاّ سَلَكَ الشَيْطَانُ فَجًّا غَيْرَ فَجّكَ " فكيف يكون حال من لم يبلغ أدنى من هذه المرتبة ولا قارب، وهو يتبجح بالولاية، ويستبشر بنيل الدرجة بها عند الله تعالى.
وقال علي - كرم الله وجهه - يا بيضاء ويا صفراء غري غيري ولا تغريني.
وكل من تعرض لها من السلف فإما أنتهاصًا لنصح المسلمين من نفسه بإقامة الحق لئلاّ يضيع، وإما نزعة بشرية حركها سبب من الأسباب، أما على الثاني فلا يقتدي به، وأما على الأول فيقتدي من بلغ مقامه في التمكين والقوة والنزاهة، وفي مثل زمانه الصالح الذي لم يزل فيه الدين طريًا، والحق جليًا، والأعوان عليه قائمين، وهيهات ذلك في آخر الزمان الذي غلب فيه حب الدنيا واستولى سلطان الهوى على الناس، فلا ترى إلاّ حرصًا على الجمع والمنع، ولا ترى إلاّ نفاقًا ومداهنة وملقًا، فالمرء لا يعدل بالسلامة شيئًا، ومن له بوجودها إن لم يكن له من المولى تعالى لطفًا ظاهر.
أنذر نبينا محمد ﷺ بهذا الزمان، وحض فيه على تجنب أمور العامة، وإيثار السلامة، فقال ﷺ: " إذا رَأيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوىً مُتَّبَعًا، وَإعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأيٍ بِرَأيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخُوَيِّصَةِ نَفْسِكَ ".
ولله الأمر من قبل ومن بعد
وسواس المهدوية
فمن انتهض اليوم للانتصاب رَوْمًا لإقامة الحق وإنصاف المظلوم من الظالم فهو مغرور، ولعل ذلك لا يتأتى له كما ينبغي في بيته " فضلًا عن قريته " فضلًا عن البلد، فضلًا عن الإقليم، وقد يسمع فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بمصالح المسلمين ودرجة الإمام العادل، وذلك كله حق، ولكن أين يتأتى؟ فيتحرك المسكين لانتقاص الأجر والظفر بعلي الدرجات فلا يفطن إلاّ وقد وقع به العشاء على سرحان، وربما حان فيمن حان، وقد يكون ذلك، وهو الأغلب، دسيسة دنيوية، ونزعة شيطانية، وقد يقع في " بعض " هذه المهاوي بعض أبناء الطريق يحسدهم الشيطان على باب الله والتفرغ للحضور بين يديه وتجنب المعاصي التي هي أقرب شيء إلى الغفران برحمة الله، فلا يزال بهم حتى يضمهم إليه ويجاوز بهم مزالق من كانوا يتبعونه إلى هاوية من يتبعهم كما قال الشاعر:
وكنت امرءًا من جند إبليس فانتهى ... بيَ الأمر حتى صار إبليس من جندي
نسأل الله العافية، فيجد الواحد قوة إيمانية في قلبه أو حالة جمالية واردة، فيوهمه ذلك أنه قوي على أن يصدع بالحق، وربما أوهمه ذلك أنه هو الحقيق بذلك دون غيره، أو أنه هو المهدي المنتظر، فيتحرك على طمع أن ينقاد له الأمر وينقاد له أبناء الزمان، ويحفر فيُكدي، ولا يعيد ولا يبدي، ثم يصير أشقر إن تقدم نُحِر، وإن تأخر عُقِر، فلا يسعه على زعمه إلاّ فتح أبواب التأويلات والترخصات، وإسعاف الناس بعد أن قام ليتبعوه، ومن شأنك بهدم الدين عوض ما قام ليبنيه، ويخفض الحق مكان ما انتهض ليعليه، فإياك وإياك.
إذا أرخى الخمول عليك ذيلًا ... فنم في ظله ليلًا طويلا
1 / 54