ثم رجعت في زورة أخرى بعد هذه فمررت أيضًا بسجلماسة فوجدت فتنة أبشع من هذه وأشنع وقعت لهؤلاء مع عوام المسلمين " ثم مع المسلمين " كافة، عامة وخاصة، وذلك أنهم نظروا في كلام من حرض من الأئمة على النظر في علم التوحيد، وحذر من الجهل فيه ومن التقليد، فجعلوا يسألون " الناس " عما يعتقدون، ويكلفونهم الجواب والإبانة عن الصواب، فربما عثروا على قاصر العبارة عما في قلبه، أو متلجلج اللسان لدهش ناله، أو جاهل بشيء مما يقدح في العقيدة أو يظنونه قادحًا وإن لم يقدح، فيشنعون عليه الجهل والكفر، ثم أشاعوا أن الفساد قد ظهر في عقائد الناس، وجعلوا يقررون العقائد للعوام، فشاع عند الناس أن من لم يشتغل بالتوحيد على النمط الذي يقررون فهو كافر، وشاع عندهم أن من لم يعرف معنى لا إله إلاّ الله أي النفي والإثبات على التقرير الذي يقرره العلماء فهو كافر، فدخل من ذلك على عوام المسلمين أمر عظيم، وهول كبير، فلما دخلت البلد جاءني الناس أفواجًا يشتكون من هذا " الأمر " وأن ليس كل أحد يبلغ إلى فهم تقارير العلماء فأقول لهم: إن الله تعالى إنما تعبدكم باعتقاد الحق في أنفسكم، أفلا تشهدون أن الله تعالى حق موجود؟ فيقولون: بلى، أفلا تعلمون أنه واحد في ملكه لا شريك له ولا إله معه وكل معبود سواه باطل فيقولون: بلى، هذا كله يقين عندنا لا نشك فيه ولا نرتاب، فأقول لهم هذا هو معنى كلمة الإخلاص المطلوب منكم اعتقاده، سواء عرفتموه من لفظها أو لا، فإن الكلمة عربية، والأعجمي لا حظ له في دلالتها، وإنما حسبه أن يترجم له مضمونها فيعتقده، وكذا العقائد كلها المطلوب منكم اعتقادها بالمعنى، ولا يشترط فهم ألفاظها التي يعبر " بها " عنها في كتب العلماء، ولا إدراك حدودها ورسومها التي تعرف بها. فإن فهم هذه العبارات والإحاطة بهذه الحقائق والتقريرات علم آخر لم يكلف به العوام، فإذا أجبتهم بذلك انطلقوا مسرورين حامدين شاكرين، ثم جاءني رئيس هذه الفتنة وسألني عن مسائل في هذا المنحى فأجبته، ثم تقدمت إليه بالنصيحة وقلت له: أكثر النحل وجل الطوائف الضالة إنما خرجت في هذا العلم، فإن أردت نفع الناس فقرر لهم العقائد بالقدر الذي يبلغون، وحدث الناس بما يفهمون، كما في الحديث الكريم ودع عنك هذه الامتحانات والتدقيقات والتشنيعات التي لم تجْرِ بها سنة أهل الدين في عصر من الأعصار، فإذا هو قد أشرب ذلك وتمكن فيه التظاهر به، وإذا تمييزه قد نقص عما كنت أعرف منه قبل ذلك، نسأل الله العافية. فتمادى على ذلك وأصفقت عليه العوام حتى سمعوا مقالته فيهم، وجعل يتغالى في تقرير العقائد وبيان وجوه المخالفة ونحوها على التفصيل بما لا حاجة إليه حتى يقع في ذكر ما هو سوء الأدب في حقه تعالى، وما لا يستطيع كل من في قلبه رائحة من عظمة الله تعالى أن يفوه به، ويحضر مجلسه أوباش الأعراب من جراوة ونحوها، فإذا رجعوا إلى قومهم ذهبوا بتلك المقالات وجعلوا يلقون على أمثالهم من الرعاع الأسئلة من هذا المنحى فيقولون لهم: أين بات الله؟ وأين يُصبح؟ وأين يظل؟ وأين هو؟ " وكيف هو "؟ إلى ما هو أبشع من ذلك مما لا أذكره، وقد نبهت على طرف من هذا المعنى في كتابي المذكور، ثم أشاعوا أن عوام المسلمين لا تؤكل ذبائحهم ولا يناكحون مخافة أن يكونوا لم يعرفوا التوحيد، فحدثني الفقيه المشارك الصالح أبو عبد الله مبارك بن محمد العنبري الغرفي ﵀ أن أعرابيًا من هؤلاء الشيعة جاء مع قوم من بلد توات فكانوا إذا طبخوا زادهم وفيه الخليع يمتنع من الأكل معهم ويقول: إن الجزار الذي ذبح هذه البهيمة لا ندري أيعرف التوحيد أم لا؟ ولما دخل البلد جيء بطعام عليه لحم وجماعة من الأشراف حضور فدعوه للأكل فأمتنع وقال: إن العبد الذي ذبح تلك الذبيحة لا ندري أيعرف التوحيد أو لا؟ فقالوا له: ما ذبحها عبد، وإنما ذبحها المولى فلان الشريف منهم فامتنع أيضًا وبات طاويًا، ثم لم يقفوا في هذا بل انتهكوا حرمة عوام المسلمين ابتلاهم الله بانتهاك حرمة خاصتهم أيضًا، فتناولوا فقهاء وقتهم ووقعوا في أهل العلم والدين ومن هم على سنن المهتدين، وضللوهم إذا لم يضللوا العامة، فوقع لهم قريب مما وقع للكميلية من الروافض فإنهم كفروا الصحابة حيث لم يقدموا عليًا - كرم الله وجهه - ثم كفروا عليًا حيث لم ينازعهم في حقه، وكان أهل البلد اتبعوني وأنا في
1 / 46