ماجرای عقل اول: مطالعه‌ای در اسطوره: سوریه و بین‌النهرین

فراس السواح d. 1450 AH
141

ماجرای عقل اول: مطالعه‌ای در اسطوره: سوریه و بین‌النهرین

مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة: سوريا وبلاد الرافدين

ژانرها

يقف الدارس حائرا أمام هذا النص الذي أعتبره شخصيا أعظم نص أسطوري أنتجه الإنسان القديم. والحيرة تأتي من غنى النص وفيضه بالرموز النفسية والاجتماعية والتاريخية، وتعدد بواعث إنتاجه، وتراكم خبرات إنسانية شتى في تكوينه. فالملحمة قد تركبت من عدة أساطير سومرية بنت عليها العبقرية السامية ذلك الهيكل الشامخ، الذي يعطي خلاصة عن علم وفكر وفلسفة وفن الشعب الرافدي العريق، في مجالات هامة عدة. من هنا لا نستطيع إعطاء تفسير واحد للملحمة، فنبخسها بذلك حقها؛ فالملحمة لم توضع لغرض واحد، ولم تنشأ عن باعث واحد. ففي النص مستويات عدة متداخلة ومتآلفة، وعلى الدارس والمفسر ، إن أراد الموضوعية والشمول، أن يفرق بين تلك المستويات مميزا بعضها عن بعض، حذر الوقوع في أحادية النظرة. (2-1) الملحمة باعتبارها مغامرة فكرية فذة

تتقدم الملحمة بمجموعة من التأملات المترابطة، التي تتخذ من النشوء والتكوين والبدايات موضوعا لها؛ فالشكل الحالي للوجود قد انبثق عن شكل سابق له، ولم ينبثق عن عدم. فعندما كانت تعامة وأبسو وممو يمزجون أمواههم معا، لم يكن هناك زمان؛ لأن الزمان نتاج التغير، مرتبط بإيقاعه، وتلك العناصر الثلاثة كانت في هدأة وصمت وسكون. كما لم يكن هناك مكان؛ لأن المياه المتمازجة كانت وحدها ولا موجود معها قبل أن تخلق السموات والأرض وتتحدد الأمكنة والاتجاهات. إن فكرة انبثاق الوجود الحالي عن وجود سابق له، تتخلل فكر المنطقة وتميز كل التأملات الخاصة بالتكوين. كما نجدها في سفر التكوين العبراني: «في البدء خلق الرب السموات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الرب يرف فوق وجه الماء.» وإلى يومنا هذا، لم يقبل العلم الحديث فكرة العدم المطلق؛ فكل نظريات التكوين العلمية تتحدث عن نشوء الكون من مادة ما، بدئية، ووجود ما سابق. كما أثبت القرآن الكريم فكرة الوجود السابق على الخلق عندما قال:

وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء

سورة هود: 6. كما أشار محمد (

صلى الله عليه وسلم ) في الحديث الشريف إلى نفس الموضوع عندما أجاب عن سؤال: أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق؟ فقال: كان في عماء (والعماء هو الغيم الرقيق الذي يحول بين الناظر وبين الشمس).

38

بعد ذلك تتتابع تفسيرات نشوء الكون في الملحمة. فمن الأطروحة ينبعث طباقها، ومن تناقضهما يظهر التركيب. فالقوى السكونية المتمثلة في الثالوث البدئي تنتج في صميمها القوى الحركية المتمثلة في الآلهة الجديدة، ومن صراعهما يظهر إلى الوجود الكون بكل مظاهره. الماء العذب موجود في بطن الأرض لأن إيا قد قهر أبسو وبنى مسكنه فوقه تاركا إياه حبيسا في الأعماق، والضباب يتشكل فوق الماء لأن إيا قد خرم أنف ممو بحبل يجره به أينما ذهب، والسماء والأرض تكونتا من جسد الإلهة تعامة التي شطرها مردوخ إلى شطرين، والإنسان خلق من دماء الإله كينغو وأعطي الحياة ليكدح على الأرض ويقدم للآلهة طعامها، وبابل ظهرت للوجود لأن الآلهة بنوها لزعيمهم مردوخ ... إلخ. (2-2) الملحمة باعتبارها تاريخا

يعتبر انتقال البشرية من مرحلة الثقافة الأمومية إلى مرحلة الثقافة الأبوية من أهم الانقلابات التاريخية الكبيرة. ورغم أن الإينوما إيليش قد كتبت في فترة متأخرة عن ذلك الانقلاب، إلا أنها تنطوي على ذكريات حية وغضة، عن تلك الحقبة الفاصلة؛ فالحالة السكونية للآلهة البدئية هي تمثيل واضح لسكونية المجتمع الأمومي وابتعاده عن التغيرات السريعة والحثيثة التي ميزت المجتمع الأبوي فيما بعد. أما الحالة الدينامية للآلهة الشابة بزعامة إيا أولا ومردوخ فيما بعد فهي تمثيل واضح لحركية المجتمع الأبوي وإشارة لبدء الحضارة التي نعرفها الآن. إن الصراع بين المعسكر الذي تقوده تعامة، والمعسكر الذي يقوده مردوخ، لم يكن إلا تمثيلا للصراع بين ثقافتين متمايزتين؛ ثقافة مركزها المرأة، وأخرى مركزها المجتمع، وتكريسا للثقافة الأبوية الطالعة.

لقد غادرت القوى الحضارية الجديدة مرحلة الوئام مع الطبيعة، التي ميزت المجتمع الأمومي، ودخلت مرحلة السيطرة على الطبيعة. ولم تكن سيطرة إيا على أبسو إلا رمزا لسيطرة الإنسان على الماء العذب وتسخيره لزراعته وريه؛ وذلك بحفر الآبار وبناء السدود

39

صفحه نامشخص