مُفْرَدَاتُ القُرْآنِ
(نَظَرَاتٌ جَدِيدَةٌ فِي تَفْسِيرِ أَلْفَاظٍ قُرْآنِيَّةٍ)
تَأليف
الإمام عبد الحميد الفراهي
صَاحِبُ تَفْسِيرِ
(نِظَامِ القُرْآنِ وَتَأْوِيلِ الفُرْقَانِ بِالفُرْقَانِ)
تَحقيق وشَرح
الدكتور محمَّد أجمل أيّوب الإصلاحي
دار الغَرب الإسْلامي
1 / 1
مُفْرَدَاتُ القُرْآنِ
(نَظَرَاتٌ جَدِيدَةٌ فِي تَفْسِيرِ أَلْفَاظٍ قُرْآنِيَّةٍ)
تَأليف
الإمام عبد الحميد الفراهي
صَاحِبُ تَفْسِيرِ
(نِظَامِ القُرْآنِ وَتَأْوِيلِ الفُرْقَانِ بِالفُرْقَانِ)
تَحقيق وشَرح
الدكتور محمَّد أجمل أيّوب الإصلاحي
دار الغَرب الإسْلامي
1 / 2
(c) ٢٠٠٢ دَار الغَرب الإسلامي
الطبْعَة الأولَى
دار الغرب الإسلامي
ص. ب. ٥٧٨٧ - ١١٣ بيروت
جميع الحقوق محفوظة. لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات أو نقله بأي شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونية أو كهروستاتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ الفوتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطي من الناشر.
1 / 4
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإن هذا الكتاب الجليل الذي بين أيديكم من الكتب الأصيلة في تفسير ألفاظ القرآن، ويحفل بنظرات جديدة وتحقيقات بارعة واستدراكات قيمة على كتب اللغة والتفسير. ولو لم يتضمن إلا تفسير كلمة (الآلاء) لكفاه شرفًا وتميزًا عن أمثاله من كتب غريب القرآن.
وهو من تأليف الإمام عبد الحميد الفراهي ﵀ (١٢٨٠ - ١٣٤٩ هـ) أحد أفذاذ العلماء المتأخرين. كانت شخصيته الجامعة بين علوم الشرق والغرب نادرة العصر كما يقول العلامة السيد سليمان الندوي. لقيه العلامة الدكتور تقي الدين الهلالي المراكشي قبل وفاته بسبع سنوات، فوصفه في مذكراته بأنه "نادر في علماء العرب فضلًا عن علماء الهند". انتهى إليه فقه العربية فكان فيه السابق المبرّز والجواد المبِرّ، وأفنى عمره في تدبر كتاب الله ومدارسته، فبلغ في علمه شأوًا لم يبلغه إلا قليل من أهل العلم. "ومن نظر في تصانيفه علم أنه لاحق سبق السابقين" (١)، ولم يسعه إلا أن يصدّق قول القائل: كم ترك الأول للآخر.
_________
(١) من قول أبي الحسن البيهقي في جامع العلوم الأصفهاني (معجم الأدباء ٤: ١٧٣٧).
1 / 5
ولد في الهند وتوفي فيها، مع ذلك ألّف كل مصنفاته العلمية في اللغة العربية، دون الأدوية التي كانت لغة العلم والأدب في شبه القارة الهندية، ولم يسمع في ذلك لنصح الناصحين وعلل العاذلين، فإنه ألّف ما ألّف لعلماء العالم الإسلامي أجمع، وهل للعالم الإسلامي من لغة غير لغة القرآن؟.
ولكن مما يؤسف له أن كتبه كلها (غير كتاب أقسام القرآن) صدرت في الهند، ونفدت نسخها قبل أن تصل إلى أيدي العلماء والباحثين في البلاد العربية، فلم يقفوا عليها لينهلوا من معينها العذب، ويقتطفوا من روضها الأُنُف. فلا هي وُفّيت حقها من الإفادة والدراسة والنقد، ولا هو وفّي حقه من التقدير والإنصاف والاعتراف. ولا أدلّ على ذلك من غياب ترجمته عن كتاب الأعلام للزركلي، وخلوّ الدراسات القرآنية والعربية التي ظهرت في العالم العربي في غضون سبعين عامًا مضت بعد وفاة المؤلف عن الدلالة على مكانته والإشارة إلى آرائه والنقل من كتبه إلا نادرًا.
وقد دفعني ذلك في سالف أيامي إلى أن أقبل على بعض مؤلفاته وأخرجها للدارسين بعد ضبطها وتصحيحها وشرحها. وألفيت نفسي -على قصور باعي وضعف حيلتي- نازعة إلى خدمة كتاب مفردات القرآن، لأهميته البالغة في علم القرآن وعلم اللغة معًا، وكان ذلك عام ١٣٩٥ هـ.
وكتاب المفردات هذا من الكتب التي لم يقدّر للمؤلف ﵀ أن يكملها أو يحرر المادة التي كتبها في أزمنة مختلفة، فتوفاه الله، والكتاب في المسودة. فلما أنشأ تلامذته وأصدقاؤه الدائرة الحميدية ومطبعتها لنشر ما لم ينشر من مؤلفاته أسندوا تحرير المسودات وإعدادها للنشر إلى تلميذه الشيخ أختر أحسن الإصلاحي ﵀، فأصدر عدة كتب، منها هذا الكتاب الذي نشر سنة ١٣٥٨ هـ.
وكنت قرأت الكتاب في زمن الطلب، فحيرتني أمور منها أن عددًا كبيرًا من الألفاظ التي فسرت في الكتاب موجودة بنصها في أجزاء التفسير المطبوعة،
1 / 6
فأيهما الأصل؟ ولم أجد جوابًا عن هذا السؤال وغيره لأن الكتاب صدر بدون مقدمة من الناشر. ولكن إذ طبع بعد وفاة المؤلف توقعت أن تكون مسودته بخطه محفوظة. وكانت بالفعل محفوظة، ولم تكن دونها "مهامِهُ فِيح" أو "خَرقٌ تجرُّ به الرياح ذيولًا"، بل كانت على طرف الثمام، ولكن لم يتيسّر بلوغ المرام، إلا بعد بضعة أعوام!.
وتبين بعد النظر في الأصل أن الناشر ﵀ لم يقتصر على تصحيح النص وتحريره بل أكمل المواد الناقصة منه بما ضم إلييها من نصوص التقطها من كتب المؤلف الأخرى، ثم أضاف إليه جملة مختارة من الألفاظ التي فسرت فيها، وأنزلها في الكتاب منازلها حسب ترتيب المؤلف. فلم يكن بد من الرجوع إلى تلك الكتب التي نقلت منها النصوص المزيدة لمعارضتها بالأصول. ومرة أخرى كانت تلك الكتب على حبل الذراع، ولكن تصرّم زمن حتى أمكن الوصول إليها والاطلاع. ثم شغلتني شواغل عن العناية بالكتاب فلم أتمكن من إنجاز العمل إلا سنة ١٤٠٣ هـ.
ولكن مواطن عدة في الكتاب كانت خارجة عن طوقي، وهي التي رجع فيها المؤلف إلى اللغة العبرانية، وكتب بعض الألفاظ بحروفها، فشقّ عليّ أن أمرّ بها دون أن أفهمها وأوثقها. فكان من فضل الله سبحانه أن تهيأت لي فرصة للإلمام باللغة العبرانية إلمامًا يمكّنني من مراجعة معاجمها والنسخة العبرية للعهد القديم، فحققت النصوص المتعلقة بها في الكتاب.
ثم بدا لي أن أتقيل ناشر الطبعة الأولى، فأضفت إلى نشرتي أيضًا ألفاظًا استخرجتها من كتب المؤلف، ولا سيما تفسير سورة البقرة الذي كان مخطوطًا آنذاك، وجمعتها في ملحق، وحققتها وعلقت عليها حسب المنهج الذي اتبعته في سائر الكتاب. وبعدما نجز هذا العمل أيضًا تجرّمت حِجَج خلون حلالها وحرامها!.
وأخرجت في خلال هذه الفترة كتابين آخرين من كتب المؤلف وهما:
1 / 7
"إمعان في أقسام القرآن" (١٤١٥ هـ) و"الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح" (١٤٢٠ هـ). ولكن كتاب المفردات الذي كان أول كتاب اشتغلت به ظل ينتظر من ينهض بأعباء نشره، وظل المعنيون بآثار الفراهي يترقبون صدوره إلى أن قيّض الله لنشره الحاج الحبيب اللمسي صاحب دار الغرب الإسلامي في بيروت، الذي وقف حياته على خدمة العلم وأهله، وإخراج كنوز التراث الإسلامي العظيم ودرره.
وإني إذ أصدر اليوم نشرة جديدة للكتاب بعد ما مضى نحو خمسة وستين عامًا على نشرته الأولى التي أصدرها جدي لأمي ﵀، لا أراني إلا مقتفيًا أثره في خدمة الكتاب. وإن اختلفت هذه عن تلك في بنائها ومنهجها، فذلك لأنني حرصت على أن تجمع نشرتي بين خصائص أصل المؤلف وفوائد النشرة الأولى كاملة غير منقوصة ومميزًا بعضها عن بعض.
ولما كانت سيرة المؤلف لا تزال مجهولة عند كثير من الدارسين العرب صدّرت الكتاب بفصل في ترجمة المؤلف وآثاره المطبوعة والمخطوطة. وأتبعته فصلًا آخر تحدثت فيه عن كتاب المفردات مشيرًا إلى مقاصده والأسباب التي بعثته على تأليفه مع وجود كتب كثيرة في هذا الموضوع، ونوهت بمنهج المؤلف في تفسير الألفاظ والقيمة العلمية للكتاب. وبعد ذلك وصفت نشرته الأولى ومنهجها، ومسودة الكتاب، ثم بينت الطريقة التي سلكتها في إعداد هذه النشرة الجديدة.
وقبل أن أختم كلمتي هذه، أقدّم خالص شكري إلى كل من أعانني، أو أبدى اهتمامًا بهذا العمل، وحثّني على إنجازه والتعجيل في إصداره، راجيًا أن يشكر معي شيخنا الحاجّ الحبيب اللبيب الذي تولّى نشر الكتاب، وألبسه هذه الحلة القشيبة، سائلًا الله أن يبارك في عمره ويتقبل مساعيه.
اللهم اغفر لمؤلف هذا الكتاب وتلميذه الناشر نشرتَه الأولى وأحببهما وارضَ عنهما واجعلهما مع السفرة الكرام البررة، فقد كانا من أهل القرآن الذين
1 / 8
هم أهلك وخاصتك، ومن المتبعين لسنة نبيك، والمجتهدين في ابتغاء مرضاتك.
اللهم لك الحمد على أن وفقتني لخدمة هذا الكتاب الخادم لكتابك العزيز، فاجعل عملي -على ما فيه من ضروب النقص والتقصير- خالصًا لوجهك الكريم، واغفر لي ولوالديَّ وللمؤمنين. وصلِّ اللهمّ وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الرياض
١٠/ ١١/ ١٤٢٢هـ
الموافق ٢٤/ ١/ ٢٠٠٢
محمد أجمل أيوب الإصلاحي
1 / 9
ترجمة المؤلف
(١) مصادر الترجمة:
اعتمدت في ترجمة المؤلف على مصادر عديدة أهمها:
١ - الترجمة الذاتية التي كتبها المؤلف ﵀ بخطه في دفتر مذكرات العلامة الدكتور تقي الدين الهلالي المراكشي ﵀ (١) عندما زاره في قريته في ١٧ رمضان سنة ١٣٤٢ هـ، أي قبل وفاة المؤلف بسبع سنوات. وهي على وجازتها أوثق مصدر لسيرته. ثم ما كتبه الهلالي نفسه عن المؤلف في مذكراته. وقد نقل النصين أحد تلامذته -وهو الشيخ أبو الليث الإصلاحي الندوي ﵀ (٢) - في مقاله (الإمام حميد الدين الفراهي ﵀ المنشور في مجلة الضياء الشهرية التي كانت تصدر في لكناؤ (عدد رجب ١٣٥٢ هـ ص ٢٥٣ - ٢٦٠).
_________
(١) ولد الدكتور الهلالي في سجلماسة سنة ١٣١١ هـ وتوفي في الدار البيضاء في ٢٦ شوال سنة ١٤٠٧ هـ. واتفق أن قدم الدكتور الهلالي إلى الهند سنة ١٤٠٠ هـ فلقيته في وفد من مدرسة الإصلاح، فحدثنا عن الإمام الفراهي، فسألته أن يكتب لنا ما يحضره عن سيرة الفراهي، فوعدنا، وفي اليوم التالي سلم إلي ووقة كان أملاها على مرافقه وختمها بإمضائه: "أملاه الدكتور محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي بمدينة بنارس- الهند في اليوم ٦/ ٤/ ١٤٠٠هـ".
(٢) كان اسمه (شير محمد) وبهذا الاسم نشر مقاله المذكور، وكلمة (شير) تعني الأسد فسماه الدكور الهلالي (أبا الليث) فاشتهر هذا الاسم الجديد، ونسي الاسم الأول. كان الشيخ أبو الليث ﵀ من كبار العلماء الزهاد، انتخب بعد انقسام الهند أميرًا للجماعة الإسلامية الهندية، فقادها أكثر من ثلاثين سنة. توفي في ١٦ جمادى الأولى سنة ١٤١١ هـ.
1 / 11
٢ - رسائل العلامة شبلي النعماني ﵀ إلى المؤلف، وهي منشورة ضمن مجموعة (مكاتيب شبلي) المجلد الثاني (ص ١ - ٥٥).
٣ - نزهة الخواطر للعلامة الشريف عبد الحي الحسني المتوفى سنة ١٣٤١ هـ (٢٤٨:٨ - ٢٤٩) وقد زاد في الترجمة ابن المؤلف الشيخ أبو الحسن علي الندوي ﵀.
٤ - ثلاث مقالات في سيرة المؤلف كتبها العلامة السيد سليمان الندوي ﵀ وهي:
أ- ترجمة موجزة بالعربية كتبها في ٢٧ شعبان سنة ١٣٤٩ هـ، لتلحق بآخر كتاب إمعان في أقسام القرآن (طبعة المكتبة السلفية بالقاهرة).
ب- مقال بالأردية نشره فور وفاة المؤلف في مجلة معارف (عدد نوفمبر سنة ١٩٣٠ م)، وهو أقوى ما كتبه الندوي في الوفيات.
جـ- ترجمة مفصلة نشرت في المجلة نفسها في عددي يناير وفبراير سنة ١٩٣١م. وقد أحلنا لهذه الترجمة والترجمة التالية على كتاب "مختصر حيات حميد".
٥ - ترجمة المؤلف التي صدر بها تلميذه الشيخ أمين أحسن الإصلاحي ﵀ كتاب (مجموعة تفاسير فراهي) وهو مجموعة أجزاء تفسير الفراهي التي ترجمها الإصلاحي إلى الأردية.
٦ - مقال للدكتور شرف الدين الإصلاحي بعنوان (ترجمان القرآن مولانا حميد الدين الفراهي ﵀، نشر في مجلة معارف (عدد رجب ١٤١١ هـ) لخص فيه كتابه الجليل الذي ألفه في سيرة الفراهي، ولا يزال مخطوطًا (١).
_________
(١) صدر مؤخرًا بعنوان (ذكر فراهي) في ٨٤٠ صفحة من الدائرة الحميدية بمدرسة الإصلاح، أعظم كره (الهند).
1 / 12
(٢) اسمه ونسبه ومولده:
هو عبد الحميد بن عبد الكريم بن قربان قنبر بن تاج علي، حميد الدين، أبو أحمد، الأنصاري، الفراهي. وقد ذهب العلامة السيد سليمان الندوي في ترجمته إلى أن اسمه الحقيقي "حميد الدين"، ولكن لما كان هذا الاسم في العربية لقبًا رأى فيه تمدحًا وتعاظمًا، فسمى نفسه في أول مصنفاته العربية "عبد الحميد" (١). والحق أن عبد الحميد هو الاسم الذي سمي به بعد ميلاده، وظل معروفًا به -حسب الشواهد التي بين أيدينا- إلى سنة ١٣٠٦ هـ إذ كان عمره ٢٦ سنة. ومن ذلك:
١ - عنوان قطعتين في تاريخ ميلاده (٢)، لشيخه محمد مهدي الذي درس عليه اللغة الفارسية في صغره، ونصه:
"تاريخ تولد عبد الحميد خلف حاجي صاحب ممدوح وتلميذ راقم"
والقطعة الأولى منها:
باشرفِ بخت شد عبد الحميد ... رونقِ ميلاد بفضلِ ودود
فكر جو كردم بيِ تاريخِ سال ... كفت خرد نوبرِ باغِ وجود
وسمى أخاه كذلك "عبد الرشيد" في قطعة أخرى في تاريخ ميلاده، وهو أيضًا اشتهر فيما بعد برشيد الدين.
٢ - وللشيخ المذكور أيضًا قصيدة بالفارسية بمناسبة زواج الفراهي في ١٧ رجب سنة ١٢٩٩ هـ، سماه في عنوانها "عبد الحميد".
_________
(١) حيات حميد (الندوي): ٢.
(٢) قرأت القطعتين في نسخة من ديوان الشيخ محمد مهدي منقولة من أصل المؤلف، وفي وثيقة مع قطعات أخرى في تاريخ ميلاد والد الفراهي وأخيه وعمه. وقد وقفت على نسخة الديوان عند كاتبها شيخنا بدر الدين الإصلاحي ﵀. أما الوثيقة فقد وقعت عليها عرضًا ضمن نسخة كتاب الدر النضيد للفراهي إذ كنا أنا والدكتور شرف الدين الإصلاحي نتصفح مخطوطات الفراهي المحفوظة عند الشيخ المذكور في شهر مارس سنة ١٩٨٠م.
1 / 13
٣ - في رسالة بعث بها الفراهي إلى والده من لاهور، حينما كان يدرس على العلامة فيض الحسن السهارنفوري عام ١٣٠٠ هـ أو قبله، كتب اسمه "عبد الحميد" واسم أخيه "عبد الرشيد" (١).
٤ - بهذا الاسم سماه ابن عمته العلامة شبلي النعماني في رسالة مؤرخة في ٢٧ مارس عام ١٨٨٤م (الموافق ١٣٠١ هـ) (٢).
٥ - في خزانة كتب الفراهي نسخة خطية من مثنوي جلال الدين الرومي (الدفتر الأول) ذكر الفراهي في آخرها بالفارسية أنه اشتراها سنة ١٣٠٦ هـ، ثم كتب اسمه مركبًا هكذا:
"محمد عبد الحميد أنصاري بسر عبد الكريم أنصاري" (٣)
والجدير بالذكر أن هذا الاسم المركب هو الذي صدر به أول كتبه سنة ١٨٩١م. وهما رسالتان كلفه المسؤولون في كلية عليكره ترجمتهما من العربية إلى الفارسية لإقرار تدريسهما في الكلية التي كان هو أحد طلابها في السنة الأولى. فنشرت الرسالتان باسم "محمد عبد الحميد" مع كونه قد عوف في الكلية باسم "حميد الدين".
وقد غلب "حميد الدين" على "عبد الحميد" وخاصة بعد ما ثبت في أوراقه الرسمية، واشتهر به لكونه أقرب إلى ذوق أهك الفارسية والأردية وأكثر شيوعًا على ألسنتهم، فأخذ الفراهي نفسه يوقع مكاتباته بحميد الدين. وبهذا الاسم صدرت كتبه المعدودة في الأردية والفارسية، أما كتبه العربية -وهي جل مؤلفاته- فأثبت عليها اسمه هكذا: "المعلم عبد الحميد الفراهي". ولا يبعد أن يكون إيثاره اسمه الأول "عبد الحميد" على الاسم الثاني "حميد الدين" راجعًا إلى ما أشار إليه العلامة السيد سليمان الندوي من كونه في العربية من ألقاب
_________
(١) مكاتيب فراهي: ١٠.
(٢) مكاتيب شبلي ١: ٦٩.
(٣) هذه النسخة محفوظة في مكتبة مدرسة الإصلاح.
1 / 14
المدح، فتجنبه الفراهي ورعًا وتواضعًا.
أما كنيته "أبو أحمد" فكنى بها نفسه في أول ديوانه العربي إذ سماه "ديوان أبي أحمد الأنصاري" (١). وكذلك لما أرسل قصيدة له إلى العلامة شبلي النعماني ضمن رسالة غير مؤرخة كتب عنوانها "قصيدة لأبي أحمد الأنصاري" (٢)، وهي موجودة في ديوانه المطبوع بعنوان "في تطاول الطليان على طرابلس" (٣). لم نجد هذه الكنية إلا في الموضعين المذكورين، ولم يكن من أبنائه من يسمى "أحمد"، فالظاهر أنه قصد بهذه الكنية التعمية على استخبارات الاستعمار البريطاني التي كانت تراقبه لأسباب من أكبرها قصائده العربية في وصف عداء الصليبيين للمسلمين وهجومهم على بلادهم، وتحريض المسلمين على جهادهم (٤).
أما نسبة الأنصاري فقد نص عليما صاحب نزهة الخواطر والعلامة الندوي، ولكن الفراهي نفسه لم ينتسب إليها في كتاباته إلا قليلًا، ومن ذلك ما نقلناه آنفًا من آخر نسخته من كتاب المثنوي. ولعل ذلك كان قبل أن يختار لنفسه نسبة "الفراهي"، التي اقتصر عليها ابتعادًا مما قد تشم منه رائحة التفاخر بالنسب. أما وجود هذه النسبة في عنوان الديوان العربي فإنه -كما قلنا- بني على الإخفاء والإغماض دون الإعلام والإظهار.
و"الفراهي" نسبة إلى قريته التي كانت مسقط رأسه، واسمها "فَريها"، وهي من قرى (أعظم كره) أحد أضلاع (٥) الإقليم الشمالي في الهند "أُتَّرا براديش".
_________
(١) نسخة منقولة من أصل المؤلف محفوظة في مكتبة دار المصنفين بمدينة أعظم كره.
(٢) مكاتيب فراهي: ٣٧.
(٣) ديوان المعلم عبد الحميد الفراهي: ٨ - ١٠.
(٤) حيات حميد (الإصلاحي): ٦١.
(٥) الجمهورية الهندية مقسمة إلى أقاليم أو ولايات، والجزء من الإقليم يسمى بالأردية (ضِلعًا).
1 / 15
ولد الفراهي في القرية المذكورة صباح يوم الأربعاء سادس جمادى الآخرة سنة ١٢٨٠ هـ (١)، في أسرة كريمة معروفة بنسبها وعلمها ومكانتها الاجتماعية، ويعد أهلها من أعيان المنطقة ووجهائها، فنشأ الفراهي وترعرع في رخاء ورفاهية.
(٣) شيوخه ورحلاته في طلب العلم:
بدأ الفراهي تحصيله العلمي في منزله كدأب أبناء البيوتات الشريفة، إذ عين له مؤدب يسمى الشيخ أحمد علي (٢)، فقرأ عليه القرآن الكريم، وحفظه وهو ابن عشر سنين أو نحو ذلك.
ثم تعلم اللغة الفارسية في منزله أيضًا في مدة تسعة أشهر (٣)، أخذها عن الشيخ محمد مهدي الذي كان من المؤدبين المشهورين في تلك الديار، وله ديوان شعر بالفارسية (٤). وسرعان ما حصلت له بذكائه وتوقد ذهنه ملكة قوية في اللغة الفارسية، وامتلك ناصية البيان، فبدأ يقرض الشعر، ولم تمض مدة قليلة حتى أخذ يجاري فحول شعراء الفارسية. فقال -وهو ابن ست عشرة سنة- قصيدة صعبة الرديف عارض بها قصيدة للشاعر الفارسي المشهور خاقاني الشرواني الملقب بحسان العجم (ت ٥٩٥ هـ) (٥)، فلما عرضها ابن عمته العلامة شبلي النعماني على شيخه العلامة محمد فاروق العباسي -من جلة علماء الفارسية في عهده- (٦) وسأله عن قائلها، قال: لا أدري ولكن الظاهر أنها
_________
(١) هذا التاريخ الدقيق لميلاد المؤلف ورد في الوثيقة التي سبق ذكرها.
(٢) مقال الدكتور شرف الدين الإصلاحي، مجلة معارف عدد رجب ١٤١١ هـ ص ٨٩.
(٣) الترجمة الذاتية للفراهي في مجلة الضياء المجلد الثاني، العدد السابع، ص ٢٦٠.
(٤) نزهة الخواطر ٢٤٨:٨. وهذا هو الصواب في اسمه، ويسميه عامة المترجمين للفراهي "مهدي حسين" وهو خطأ. وقد اطلعت على نسخة خطية من ديوانه عند الشيخ بدر الدين الإصلاحي ﵀، كما سبق.
(٥) انظر ترجمته في لباب الألباب: ٤٠٥.
(٦) انظر ترجمته في نزهة الخواطر ٤٧٦:٨.
1 / 16
لبعض الشعراء المتقدمين! (١).
بدأ الفراهي تعلم اللغة العربية، وله أربع عشرة سنة، فانتقل من قريته إلى مدينة (أعظم كره) وقرأ فيها على ابن عمته العلامة شبلي النعماني (ت ١٣٣٢ هـ) الذي كان أكبر منه بست سنين (٢).
ثم توجه معه إلى مدينة (لكناؤ) وحضر هناك مدة يسيرة في دروس العلامة الفقيه الشهير عبد الحي الأنصاري اللكنوي (ت ١٣٠٤ هـ) (٣)، كما أخذ عن الشيخ فضل الله بن نعمة الله الأنصاري (ت ١٣١٢ هـ) أحد الفضلاء البارعين في المعقولات (٤).
ثم حداه حادي الشوق إلى التتلمذ على أديب العربية وشاعرها المفلق العلامة فيض الحسن السهارنفوري (ت ١٣٠٤ هـ) (٥) الذي كان مدرسًا في الكلية الشرقية بمدينة (لاهور) -وقد درس عليه من قبل العلامة شبلي النعماني أيضًا- فسافر إلى (لاهور) وقرأ عليه -بصفة شخصية- كتب الأدب العربي وبعض كتب المعقولات. وقد أحب الشيخ تلميذه لفرط ذكائه وحسن أدبه، فأهدى إليه نسخة كتبها وصححها بخط يده من كتابه (رياض الفيض) وهو شرح للمعلقات السبع في ثلاث لغات: العربية والفارسية والأردية (٦). وكان من حب الفراهي لشيخه أنه نشر ديوانه العربي سنة ١٣٣٤ هـ على نفقته، وهو أول مطبوعات دار المصنفين بمدينة (أعظم كره).
وبعد ما تخرج في العلوم المتداولة من المنقول والمعقول وعلوم العربية، أقبل سنة ١٣٠٠ هـ- وهو ابن عشرين سنة- على اللغة الإنجليزية والعلوم
_________
(١) حيات حميد (الندوي): ٣، (الإصلاحي): ٢٨.
(٢) انظر في سيرته كتاب (حيات شبلي) للسيد سليمان الندوي والأعلام للزركلي ٣: ٣٥٥.
(٣) انظر ترجمته في نزهة الخواطر ٨: ٢٥٠.
(٤) نزهة الخواطر ٢٤٨:٨ وانظر ترجمته في ٣٨٧:٨.
(٥) انظر ترجمته في نزهة الخواطر ٨: ٣٨٩.
(٦) هذه النسخة النادرة محفوظة في مكتبة مدرسة الإصلاح، والكتاب مطبوع.
1 / 17
الحديثة، فالتحق بثانوية (كرنَل غنْج) بمدينه (الله آباد) ثم بكلية (عليكره) التي تطورت فيما بعد إلى (جامعة عليكره). وكانت العربية والفارسية من المواد اللازمة لطلاب الكلية، ولكن الفراهي أعفي عنهما، بل كلّف من قبل المسؤولين ترجمة كتابين (١) من العربية إلى الفارسية لإدخالهما في المقررات الدراسية في الكلية التي كان هو أحد طلابها كما سبق.
وقد عني الفراهي في دراسته في الكلية بالفلسفة الحديثة ونال فيها درجة الامتياز مع اهتمامه بالإنجليزية والعلوم العصرية الأخرى. وقد أخذ الفلسفة من المستشرق الإنجليزي الشهير (توماس أرنولد) الذي كان من أساتذة الكلية، وعمل فيها مدرسًا عشر سنوات (٢). ومن مؤلفاته كتاب (الدعوة إلى الإسلام) الذي نال قبولًا عظيمًا عند الباحثين المسلمين، ولكن الفراهي كان ينتقد هذا الكتاب انتقادًا شديدًا ويرى أن الغرض من تأليفه تجريد المسلمين من روح الجهاد (٣).
وفي أثناء طلبه في كلية عليكره، طلب إليه ترجمة تفسير سيد أحمد خان (مؤسس الكلية) إلى اللغة العربية، فرفضها قائلًا: "لن أشارك في نشر هذا الإثم" (٤).
ثم درس سنتين علم القوانين الجارية (الحقوق)، ولكنه كان يكره الاشتغال به، فنبذه ولم يكمل تحصيله (٥).
(٤) مناصبه وأعماله التعليمية والإدارية:
تولى الفراهي بعد إكمال دراسته مناصب عدة تعليمية وإدارية. فعين سنة ١٣١٤ هـ مدرسًا للعربية والفارسية بمدرسة الإسلام في مدينة (كراتشي)، ودرس فيها أكثر من تسع سنوات.
_________
(١) أحدهما جزء من طبقات ابن سعد، والآخر رسالة بدء الإسلام من تأليف العلامة شبلي النعماني باللغة العربية.
(٢) انظر ترجمته في كتاب المستشرقون ٨٤:٢.
(٣) حيات حميد (الإصلاحي): ٣٤.
(٤) مجلة معارف عدد رجب ١٤١١ هـ، ص ٩٢.
(٥) الترجمة الذاتية، مجلة الضياء ٢/ ٧ ص ٢٦٠.
1 / 18
ثم عيّن عام ١٣٢٤ هـ أستاذًا مساعدًا للعربية في كلية عليكره، وكان أستاذ العربية فيها حينذاك المستشرق اليهودي الألماني (جوزف هوروفيتس) ناشر الجزئين الأولين من طبقات ابن سعد وصاحب كتاب (المغازي الأولى ومؤلفوها) (١)، ولعل تعيينهما كان في وقت واحد. وقد أخذ عنه الفراهي اللغة العبرانية، كما استكمل المستشرق عليه العربية (٢).
وبعد سنتين عيّن عام ١٣٢٦ هـ أستاذًا للعربية بجامعة (الله آباد) وقضى هناك نحو ست سنوات، واختير عضوًا في اللجنة العربية للعلوم الشرقية. ولما اقترح سنة ١٣٣١ هـ تأسيس جامعة عالمية في المدينة المنورة كان هو والعلامة شبلي النعماني من بين العلماء الذين اقترحت أسماؤهم للتدريس فيها (٣).
ثم اختارته حكومة (حيدر آباد الدكن) عميدًا لدار العلوم التي كانت كلية شرقية، فغادر إليها سنة ١٣٣٢ هـ منتدبًا من قبل حكومة ولايته، وكان -بالإضافة إلى مسؤوليته الإدارية- يدرّس الصفوف العليا في الكلية.
وكان الفراهي أحد المؤسسين للجامعة العثمانية بحيدر آباد، وهو الذي اقترح أن يكون تدريس العلوم الشرعية فيها في اللغة العربية، والعلوم العصرية باللغة الأردية، فوافقوا على الجزء الثاني ولكن لم يوافقوا على الجزء الأول من اقتراحه (٤). وكانت له في حيدر آباد حلقة أسبوعية لتفسير القرآن الكريم يحضرها العلماء والباحثون وطلبة علم القرآن، ويعرضون عليه أسئلتهم فيجيب عنها (٥).
مكث الفراهي بحيدر آباد إلى سنة ١٣٣٧ هـ، ثم استقال من منصبه مع
_________
(١) انظر ترجمته في كتاب المستشرقون ٢:٤٣٣.
(٢) حيات حميد (الندوي): ٨، (الإصلاحي): ٣٦.
(٣) مجلة معارف، عدد رجب ١٤١١ هـ، ص ٩٦.
(٤) حيات حميد: ١٧.
(٥) المرجع السابق: ١٨.
1 / 19
رغبة المسؤولين في بقائه هناك، وعاد إلى وطنه. وقد أشار إلى ذلك في ترجمته الذاتية قائلًا: "ولما كانت هذه المشاغل تمنعني عن التجرد لمطالعة القرآن المجيد، ولا يعجبني غيره من الكتب التي مللت النظر في أباطيلها، غير متون الحديث وما يعين على فهم القرآن، تركت الخدمة، ورجعت إلى وطني، وأنا بين خمسين وستين من عمري. فيا أسفا على عمر ضيعته في أشغال ضرها أكبر من نفعها! ونسأل الله الخاتمة على الإيمان" (١).
بعد عودته من حيدر آباد تولى الفراهي إدارة مدرسة إصلاح المسلمين التي أنشأتها جمعية إصلاح المسلمين في بلدة (سراي مير). وقد قامت هذه الجمعية في منطقة (أعظم كره) لإصلاح عقائد المسلمين وإزالة البدع المنتشرة وفض المنازعات والخصومات بين المسلمين، ثم أسست الجمعية مدرسة إصلاح المسلمين -التي سميت فيما بعد بمدرسة الإصلاح اختصارًا- لتخريج علماء ودعاة يحملون رسالتها، فيستمر عمل الدعوة والإصلاح. وقد أسند الإشراف على المدرسة إلى الفراهي وهو في حيدر آباد، فلما رجع إلى وطنه باشر إدارة المدرسة، ووضع فكرتها التعليمية، ورسم لها منهاجًا دراسيًا فريدًا يختلف عن مناهج المدارس الدينية الأخرى في نظامها، ومقرراتها الدراسية، وطريقة التدريس فيها. وفي السنوات الخمس الأخيرة من عمره قد وقف جزءًا كبيرًا من وقته وجهده على خدمة هذه المدرسة فكان يقيم ثلاثة أيام من كل أسبوع في المدرسة، ويلقي دروسًا في تفسير القرآن الكريم على أساتذتها وطلابها الكبار (٢).
ولما توفي العلامة شبلي النعماني سنة ١٣٣٢ هـ واجتمع تلامذته -وهو أحدهم- لتنفيذ فكرة أستاذهم لإنشاء مؤسسة دار المصنفين في مدينة أعظم كره، اختاروا الإمام الفراهي ﵀ رئيسًا لها والعلامة سليمان الندوي مديرًا.
_________
(١) مجلة الضياء ٢/ ٧ ص ٢٦٠.
(٢) حيات حميد (الإصلاحي): ٣٨.
1 / 20
(٥) صفاته وأخلاقه:
كان الفراهي ﵀ معروفًا بفرط الذكاء ونفاذ البصر وسرعة الإدراك ودقة الاستنباط. وكان ورعه وزهده في الدنيا، وقصده في العيش، وعزوفه عن السمعة، وحسن تعبده، مع جود وغنى نفس وتواضع، موضع إجماع من معاصريه.
كان العلامة شبلي النعماني ﵀ يقول: "من جلس إلى عبد الحميد انصرف قلبه عن الدنيا" (١).
ويقول السيد سليمان الندوي ﵀: "كان ﵀ آية من آيات الله في حدة الذهن وكثرة الفضل وسعة العلم ودماثة الخلق وسداد الرأي والزهد في الدنيا والرغبة في مرضاة الله" (٢).
ومما وصفه به صاحب نزهة الخواطر: "جودة فهم، ووفور ذكاء، وشهامة نفس، وانجماع لا سيما عن بني الدنيا، وعدم اشتغال بما لا يعنيه".
ويقول الأستاذ عبد الماجد الدريابادي ﵀: "لم تر عيني مثله في الصبر والشكر والقناعة والتوكل وغنى النفس". وقال في موضع آخر: "كانت شخصية الفراهي قوية جذابة، قلما رأينا مؤمنًا قانتًا مثله، قيل في وصف أولياء الله إن الجلوس معهم يذكّر الإنسان بالله سبحانه، وكان يصدق هذا الوصف على الفراهي صدقًا تامًا. أما الصلاة فكأن قلبه معلق بأوقاتها. أقام في حيدر آباد سنوات عميدًا لدار العلوم، يتقاضى مرتبًا عاليًا، وكانت صلته بطبيعة الحال بعلية القوم، لكن لم يتغير شيء مما كان عليه من القناعة والاقتصاد في المطعم والملبس والديانة والصدق والإخلاص. أما مجالسه فلا مجال فيها للغيبة ولغو القول والهزل. وبالجملة فلم يكن له نظير لا في العلم والفضل
_________
(١) حيات حميد: ٥٥.
(٢) ترجمة الفراهي الملحقة بكتابه إمعان في أقسام القرآن ط دار القلم: ١٥.
1 / 21
ولا في الديانة والتقوى" (١).
وقد أقبلت الدنيا على الفراهي، فتهيأت له فرص لو اغتنمتها وسعى إلى ما يسعى إليه أهل الدنيا لنال أجلّ الرتب وأعلى المناصب، وحاز كل ما تطمع فيه النفوس من الأموال والألقاب وحسن الصيت، ولكنه كان زاهدًا في كل ذلك، مقبلًا على الله، قائلًا للدنيا ما قاله علي بن أبي طالب ﵁. "يا دنيا غُرِّي غيري" (٢). وكان من تيقظه وحذره في ذلك أنه قال في أثناء بعض تلك الفرص (٣) التي يتمنى الناس حصولها في حياتهم مقطوعة رباعية في الفارسية يخاطب نفسه محذرًا إياها، ترجمتها: "الجاهل مشغول بالبحث عن لذيذ المآكل، والعاقل مصروف همه إلى نيل الصيت والسمعة. أما أنت أيها الفراهي فاجتنب الاثنين، فيوشك أن ترى كليهما قد نشبت حلوقهما في الحبالة" (٤).
وكان من ورعه وعدله أنه حكم في قضية -جعله الخصم حكمًا فيها- على والده، مع كونه من أبرّ الناس به، وخرج بذلك جزء كبير من ضياعه إلى ملك الخصم (٥).
(٦) ثقافته وعلومه:
كان الفراهي عالمًا ذا ثقافة واسعة متنوعة، فقده برع في العلوم النقلية والعقلية، ومهر في اللغات العربية والفارسية والإنجليزية، وتعلّم اللغة العبرانية. وانفرد من بين معاصريه من علماء الهند بأنه درس مع كل ذلك علوم الغرب وآدابه في اللغة الإنجليزية دراسة الناقد البصير، ثم لم يزده ذلك إلا قوة في الدين واستقامةً عليه علمًا وعملًا.
_________
(١) مقال الدريابادي في صحيفته (صدق) عدد ١٩/ ٦/ ١٩٤٥ م.
(٢) الرقة والبكاء: ١٩٨.
(٣) مقال الأستاذ شير محمد في مجلة الضياء ٢/ ٧.
(٤) نواي فهلوي: ٤٠.
(٥) حيات حميد (الإصلاحي): ٥٣.
1 / 22