ابتدأت الأمة العربية تتحمل مسؤولياتها بنفسها وتسعى لإنقاذ حريتها واستقلالها بسلاحها وجهاد بنيها. وكانت في ذلك الوقت قارة على ذلك، فإن بلاد الشام بأجمعها وكذلك البلاد العراقية كانت مهذبة التهذيب الكافي عسكريا وإداريا وعدليا. وإن رجالات العرب كانوا في ذلك الحين يمارسون المناصب والمأموريات على اختلاف أنواعها ودرجاتها كالترك أنفسهم، ما عدا الوزارة فإن الأغلبية كانت تركية دائما. وكان الجيش العثماني الخامس في مركزه بدمشق، وكان الجيش الرابع في مركزه ببغداد وقوامه العرب. فالعرب سلكوا هذا المسلك في هذين البلدين وقبلوا التوظف لا التطوع فيهما.
أما من حيث الثقافة فمن الممكن أن يقال إن الانكشاف في التعليم بسوريا ولبنان ربما كان يفوق أي درجة في تركيا العثمانية نفسها، وسببه أن المدارس العثمانية في بلاد الترك كانت ملكية وعسكرية لإخراج موظفين، وكذلك مدرسة الحقوق والمدرسة الطبية، وفي الولايات لها فروع في درجة السلطاني، ولكن العرب كانوا يحصلون العلوم في مدارس أجنبية بسوريا ولبنان، وربما رحل بعضهم إلى أوروبا أو إلى أمريكا؛ لذا فنسبة التعليم في العرب بمدنهم وقراهم قد يكون بنسبة عشرة بالمائة زيادة على التحصيل التركي في مدن الأناضول وقراه، ومدن الروم ايلي وقراه أيضا. هذه ملحوظة أحببنا إثباتها الآن كي نرى الفرق بين ذلك الزمان واليوم. ولا مرية في أنه كان حين ذاك تعادل أوجب ذلك التفاوت. فإن التحصيل الرسمي على الطراز العثماني - إذا أضيف إليه التحصيل الذاتي في ما ذكرنا من جهات - ضمن للعرب حين ذاك أفضلية الحال بالنسبة للوقت الحاضر الذي ليس فيه من التعليم إلا ما يروق سياسة الاستعمار. ومن هذا القبيل فقد أدخلت تعديلات جمة على مدارس التبشير الأميركية ومدارس الجزويت والمدارس العلمانية، فاصبح كل من درس وطلب العلم على هذا الشكل لا يدري عن تاريخه وقوميته أي شيء.
وإن هذا لمن أهم ما يجب تمحيصه والنظر في عواقبه، ولا سيما وأن الدول الاستعمارية تضع الشروط لنجاة البلاد من رباط الاستعمار، بأن تعقد هذه البلاد معها معاهدات ثقافية واقتصادية، والثقافة والاقتصاد هما كل شيء، بهما تبقى القومية مستقلة أو تنسخ في عوائدها ومعتقداتها والعياذ بالله. ومن هذا القبيل ما يقال الآن من أن عهدا سيعقد بين فرنسا وروسيا على هذا الأساس، حفظنا الله من عواقب الحرص وتفضيل مصلحة الذات على الواجب نحو الأمة في عقائدها ووطنها وكرامتها.
أما الحركات في الحجاز، فقد استولى العرب على الحاميات التركية بمكة المكرمة في أول يوم، وبقي الجيش العثماني محصورا في ثكنة جرول وقلعة جياد، وكان من بهذه القلعة من الجنود العثمانيين يضربون مكة بمدافعهم. وقد أصابت قنبلة البيت الشريف من فوق الحجر الأسود وأشعلت النار في الستار المبارك وقد أطفئت في الحال. وأصابت قنبلة أخرى أحد عقود الأروقة، ومن غريب التصادف أنها وقعت على اسم عثمان بن عفان فأزالته، وكانت هذه الإصابة من الأدلة على زوال دولة آل عثمان، وقد سقطت جدة في اليوم الثالث من الثورة، وقد سقطت قلعة جرول في اليوم التاسع وأسر فيها ألف ومائتا جندي وضابط. وأما قلعة أجياد فقد هوجمت وأخذت عنوة بعد جرأة قائدها اليوزباشي كامل أفندي وضربه البيت الحرام. وفي جدة كان الأسطول البريطاني يساعد من البحر على ضرب الثكنات العسكرية بضربات تخويفية. وأما الطائف ففيه كانت الفرقة العثمانية النظامية التي يقودها الوالي والكومندان الفريق غالب باشا، وكان يقود القوات العربية المحاصرة صاحب هذه المذكرات.
إننا نحب أن نتبسط هنا بعض الشيء. فإنه لما تقرر أن يكون اليوم التاسع من شعبان هو يوم النهضة، فقد أمرت بالسفر إلى الطائف كي أقوم بأهم واجب في تلك الحركة وهو حصر فرقة عسكرية أقرب ما تكون من القوات العثمانية إلى مكة المكرمة مركز الحركة ومقر الشرافة وعاصمة الإسلام. فوصلت إلى الطائف في أول شعبان وليس معي سوى سبعين هجانا، إذ أرسلت كل القوات الهاشمية إلى المدينة المنورة مع الأميرين علي وفيصل.
وقد قابلني الوالي مقابلة معتادة وأخبرته أنني سأخرج لتأديب قبيلة البقوم، وأن الشريف لم يتعين بعد وقت طلوعه إلى الطائف حسب المعتاد. وكان الأمير على الطائف يوم ذاك شرف بن راجح بن فواز بن ناصر، يساعده الشريف حسين الجودي أحد شرفاء ذوي جود الله. وكنت أستند في حركة حصر الفرقة وأخذها، على العشائر المحلية: عتيبة بني سعد - منهم حليمة السعدية ظئر الرسول
صلى الله عليه وسلم - والرئيس على هذه القبيلة وعلى من ينتسب إليهم من الثبتة الشيخ تركي بن هليل، وعلى الفخيذة الثانية من هذه العشيرة - عشيرة البطنين - ثم على هذيل الشفي أي السرات، ثم على ثقيف آل ساعد وآل منصور، ثم على عشيرة النمور، ثم على عشائر الروقة أهل الحرة، ثم من بقي ممن لم يلتحق بالقوات الهاشمية بالمدينة من عشيرة عتيبة من الكثمة والجوازي من الثبتة والعصرمة أهل ركبة والنفعة منهم أيضا، ثم عشيرة وقدان وثمالة، ثم عشيرة البقوم وعشيرة ابن الحارث، وسبيع أهل الخرما وسبيع أهل رنية وأشرافهم.
وفي الاجتماع الذي وقع قبل الثورة بليال، وقد حضره كبار الأشراف والشيوخ بعد تمهيد قام به الشريف شرف، لم يتبعني سوى الشريف حمزة الفعر وآخر وهو شيخ آل بطنين من آل سعد، فإنهما أظهرا أشد النفور والخوف من نتائج هذه الحركة. ولقد كدت أن آمر بالقبض عليهما لولا خشية شيوع ما ينبغي كتمانه.
وكان الوالي يسكن بقرواء خارج سور الطائف، وكان يشتكي من مرض الكلية، فزرته مرتين. وكاد قائد الفرقة الميرالآي أحمد بك يزورني الليلة بعد الليلة. وكان أشد الرجال العسكريين البكباشي سليمان بك، فهو كثير الاختلاط بالناس وقديم بالحجاز، ولقد شعر بشيء مما سيقع. وقد قيل لي إن أحمد بك قائد الفرقة وسليمان بك هذا يقولان: نكاد نأخذ أسلحتنا بأيدينا حتى نرى الشريف عبد الله، فإذا رأيناه ذهب عنا كل شك. وفي اليوم الثامن من شعبان، وقد أزمعت الخروج فيه بدعوى غزوة البقوم، استدعاني الوالي، وكان لدى الشريف شرف بن راجح والشيخ عبد الله سراج مفتي مكة المكرمة، فقالا: لا تذهب فإنا نخشى عليك أن يلقى عليك القبض فقلت: بلى سأذهب، ففي عدم الذهاب ما يخشى عقباه، ووعد الثورة لم يحن بعد. فركبت إليه ومعي أربعة: الشيخ فاجر بن شليويح أحد فرسان الروقة، والشيخ هوصان بن عصاي وهو أيضا من شيوخ تلك العشيرة وأحد الرجال الذين أثق بهم، وأحد خواصي وهو هوصان بن عفار المقاطي، وفرج حامل المظلة الملكية. وتوجهت إلى دار الوالي بقرواء وتعمدت الدخول من الثكنة بالطائف مما أدهش الترك والعرب معا، حيث قالوا: لو كانت الشوائع حقيقة لما مر بنا على هذا الشكل.
ولما أقبلت على دار الوالي، قلت لفرج: ابق عند الخيل، وقلت لهوصان بن عفار: كن على رأس الدرج، وقلت للشيخين فاجر وهوصان: قوما على باب الغرفة التي أنا بداخلها، فإن أراد الأتراك أن يلقوا القبض علينا، فعلي أنا القضاء على الوالي في الغرفة وعليكم أنتم القضاء على من يأتيكم من الدرج حتى نخرج. فقالا: اتكل على الله. فدخلت وجلست، وبعد أن رحب بي قال: إلى أين تذهب؟ قلت: كما تعلم أمرت بأن أؤدب البقوم. فقال: ليس هذا بالوقت المناسب، فلو أخرت خروجك إلى حين لكان ذلك أنسب؛ وفي البلاد شائعات لا بد أنها لم تخف عليك، إن الناس يقولون إن ثورة ستقع، وهذا أنت ترى أهل الطائف يرحلون بأمتعتهم وأطفالهم. فقلت: وماذا عليك من رحيلهم؟ إنني إن أخرت الغزو بعد شيوعه لأكد المخاوف هذا التأخير، وفي السفر تهدئة الخواطر وسيرجع الناس إلى محلاتهم، أما سبب هذه الحوادث فقول الناس عن مصادر تركية إنه سيقع تبديل في الشرافة وإن الشريف حيدر بن جابر قادم إلى المدينة؛ وقد تقول بهذا رجال منهم سليمان بك، فقال: لم تركت مكة وطلعت إلى الطائف؟ ليتني لم أفعل! فقلت: لا عليك.
صفحه نامشخص