ثم قيل له: إن عاصم بك وزير الخارجية هنا. فقال: ليدخل. فدخل وجلس وقال: لدي معروضات يا سيدي - ونظر إلى ناحيتي يشير إلى لزوم سرية المحادثة - فقال: أقدم إليك يا حضرة الوزير، الشريف عبد الله بك مبعوث مكة المكرمة ونجل الشريف الأمير، فإنه يحرس أسرار الدولة مثلي ومثلك، فقل ما تشاء. فشكرت الصدر، وتظاهرت بأنني أحب النظر إلى الشارع، فقمت إلى الشباك، ثم تسللت خارجا إلى الصفة، وتركتهما وشأنهما. فلما خرج وزير الخارجية، ورآني بالصفة احمر وجهه، ثم قبل يدي وقال: إن شاء الله أزورك ببيوك دره، بقصركم الجميل. وخرج ودخلت، وبعد أن أتممت مهمتي مع الصدر خرجت.
هذه لمعة عن رجال ذلك العصر وأحواله.
تغير السياسة العثمانية في الحجاز
عندما وصل الوالي والكومندان وهيب بك إلى الحجاز، كنت أنا قد خرجت من الحجاز في طريقي إلى مصر فالأستانة. وقد تصادفنا في البحر الأحمر، وهو في بواخره، وأنا في الباخرة التي أنا فيها. وجاء ومعه قوى جديدة. وقد كان في عزل الوالي والقائد السابق منيف باشا، الإنذار بتغيير السياسة العثمانية في الحجاز، حيث لم يكن من داع لعزل ذلك الرجل المستقيم، إلا أنه لا ينتمي إلى حزب الاتحاد والترقي.
ويوم أن تركت مكة، كان الشريف زيد بن فواز في مرض موته؛ وقد سافر معي ابنه شاكر، كعادته، وما كنت أريد سفره معي، لعلة والده، ولكنه قال له: سافر فبقاؤك لا ينفعني وسفرك فيه الرفقة لعبد الله. ولما وصلنا السويس وسألنا عنه بالتلغراف، جاء الجواب السامي بهذا النص «البركة فيكم»، فعلمنا بما حدث. وكان الركن الأهم في الحجاز، فموته ومجيء وهيب في وقت واحد فيه ما فيه، مما يربك الرجل الممتاز الثقيل. ولقد كان في مجيء وهيب على هذا الشكل، السبب المعجل لمرضه فموته.
ولقد قال لي قبل مرضه: بلغني أن الوالي الجديد لا ينوي الخير بنا؛ أما أنا فرجل له خطته، وأما سيدنا فلو أخذ من هنا لما عشت دقيقة واحدة؛ فماذا تقول؟ فقلت: لا تتوهم، إنما الترك يتظاهرون ولا يفعلون، والوقت وقت تفاهم وثبات؛ وأنا مسافر، وفي سفري أستطلع الأمر. فقال: وهل في سفرك نفع؟! لو بقيت هنا، فخدمت سيدنا برأيك، وإذا اقتضى الحال ففي الدفاع بحسن قيادتك، فذلك الأولى؛ أما أنا فلا أعتمد على نفسي في أنه بقيت في بقية تتحمل أي صدمة. فقلت: الأمر دون ذلك إن شاء الله. ثم استحلفني وقال: أقلت ما قلت لتطمئنني؟! فقلت: لأطمئنك بالحق وهو الذي أعتقده فخرجت وعلى وجهه أثر البشر.
ولما وصلت مصر، لبثت أياما بضيافة الخديوي. وقد زارني إسماعيل حقي بك، الكاتب الأول للمندوب السامي العثماني بمصر محمد شريف رؤوف باشا، وقال لي: تلقت دار المندوب السامي من وزير الخارجية الصدر الأعظم سعيد حليم باشا، يطلب سرعة قدومك إلى إسطنبول. فقلت له: لا يزال بيننا وبين افتتاح المجلس شهر ونصف، ولي أشغال هنا أريد إتمامها، وسأسافر بعد ذلك فورا. فخرج من عندي بهذا الجواب.
وفي اليوم الثاني، وأنا عند الخديوي، حضر الصدر الأعظم الأسبق فريد باشا، فلما رآني قال لي: ماذا تصنع هنا؟ قلت: أنا في طريقي إلى الأستانة. فقال: كيف تذهب إلى الأستانة وتترك والدك في الحجاز، وقد حضر وهيب بقوات عظيمة بقصد عزل الأمير؟! فقلت: كما تعلم أبهتك، أن الأمير من جملة رجال الدولة، فإذا أرادت الدولة تبديله، فما من حاجة إلى إيجاد عساكر أو قوة. فقال لي: ما الفائدة من هذه الرشوة الكلامية؟ أتظنني أستطلع خفاياك؟ أنسيت أنني ألباني، وأن ما فعله هؤلاء من رجال الدولة قد قضى على آمال بلادي وعثمانيتها وأنتم كذلك؟! فقلت له: إنني في طريقي إلى إسطنبول، وأنا أعتقد أن لا خلاف يصدر من والدي، ضد ما تريده الدولة، مهما كانت صبغتها. فقال الخديوي للصدر الأعظم: هو لا يسافر قبل حلول وقت المجلس.
فخرجت من عندهما إلى محلي، وأنا في غاية من القلق. وفي ذلك المساء، وردتنا برقية بإمضاء الملك علي، يقول لي فيها: «سافر إلى إسطنبول حالا»؛ ولما كنت شديد الحذر، ولما كانت إدارة البرق والبريد تركية، شككت في أن تلك البرقية صادرة من أخي علي حقيقة، فأجبته «سأسافر عند انقضاء أشغالي، وقد أشار إلي الكاتب الأول للكوميسير العثماني العالي إسماعيل حقي بك، فأجبته بذلك».
وقد علمت أنه قد حصلت في الحجاز أزمة شديدة، لضغط الوالي على العموم وعزمه على تطبيق قانون إدارة الولايات في الحجاز؛ فاعترض الرأي العام الحجازي على هذا، وتجمهرت الأمة وانقطعت السابلة بين الساحل والداخل وبين المدينتين، وتبدت أشباح المجاعة. وزار والدي الوالي وقال له:
صفحه نامشخص