ومن غريب ما أذكره، أنني انتخبت ثلاث مرات بدون أن أكلف حلف اليمين، وكذلك يوم انتخابي وكيلا ثانيا لرئاسة هذا المجلس.
وبمناسبة المبعوثية، أحب أن أتعرض للحكم النيابي، فالحكم النيابي هو حكم من الأمة للأمة. إن كان رئيس الدولة موصوفا بالملك أو موصوفا برئاسة الجمهورية، فهو لا يحكم حكما مباشرا أو حكما استبداديا أو دكتاتوريا، بل يحكم حكما دستوريا نيابيا؛ وعليه أن يختار رئيس الأكثرية الحزبية، فيكلفه بأن يشكل هيئة الوزارة. فمتى تم ذلك، تحكم هذه الحكومة بالقوانين التي أقرها نواب الدولة من قبل، والتي تحدثها بعد ذلك. فالنواب في المجلس العثماني، كانوا ينتخبون من كل الملل العثمانية، وكان حزب الاتحاد والترقي يشير إلى من يريد، فينتخب بتدخلات حكومية، يقوم الولاة والمتصرفون بها، اللهم إلا ما كان من الحجاز، فإنهم لم يستطيعوا أن يؤثروا في انتخاباتهم أي تأثير. وأما اليمن وعسير فالولاة يعينون إلى هذه النيابة أشخاصا، بشرط أن يكونوا اتحاديين. وإذا قلنا يعينون، نقول إن الظاهر انتخاب والباطن تعيين. ولقد رأيت أن القوانين التي تسن مجددا إنما هي في مصلحة العنصر الحاكم، وهو العنصر التركي، ليهيمن على سائر العناصر فيسلبها ما كان لها من امتيازات، نالتها يوم أن كانت الدولة على شكلها القديم. فالأموال التي تجبى، والمدارس التي تشيد وتبنى، والطرق التي تفتتح، كل هذه من الأموال العمومية التي تجري عليها القوانين العثمانية، فيما قرب من العاصمة وبعد من الولايات ؛ نقول إنه كان يصرف منها ثمانون في المئة على البلاد التي هي تركية محضة؛ وما في هذا من الحيف مشاهد معروف. ثم إن أكثرية الوزارة تختار من العنصر الحاكم، وللعرب وزير واحد وهو وزير الأوقاف، ومن الأقليات الأخرى يختار الصدر من أراد بالمناوبة؛ وفي هذا ما فيه من حكم الناس حكما استبداديا تقوم به وزارة عنصرية. وهكذا فأصول الإدارة النيابية، في دولة مركبة من ملل كثيرة، تدفع بتلك الدولة إلى التفرقة والشتات والبغضاء ثم السقوط، كما وقع في الدولة العثمانية.
في مجلس النواب العثماني.
ولقد عدت إلى الحجاز في شهر تموز، وكانت تلك المدة لطيفة شيقة. وإنني أذكر أن رجلا من علماء الفلك، قال عن نجم هللي المذنب إنه سيصطدم بالأرض فيحرقها ومن عليها، في اليوم الثامن عشر من شهر مايو من تلك السنة؛ فارتج الناس. وقبل الموعد بيوم، والمجلس منتظم، ونحن فيه، وإذا بصوت فظيع ولمعة، ففر كل من بالمجلس؛ وعلمت أنا أنه رعد وبرق، فأمسكت بحسن الشيبي وأجلسته، وخرج الناس يركب بعضهم بعضا؛ ثم عادوا ولقد غاظهم جلوسنا، فقالوا: رعد وبرق، ما من شيء. ثم قال لي أحدهم: كيف بقيت أنت وزميلك؟ قلت: أنا لا أؤمن بما تقولون، ولو فرضنا صحة ذلك، فما يجدي الخروج والأرض ومن عليها في خطر الاندثار؟! فسكت.
عدنا إلى الحجاز، بعد أن علق الاجتماع إلى تشرين الثاني. وكذلك لما وصلنا الإسكندرية، أخذنا إلى ضيافة الخديوي المرحوم، في القطار إلى السويس رأسا، فالباخرة، وكان سموه رحمه الله في أوروبا. فوصلنا الوطن وكانت وجهتنا الطائف، فمررنا على مكة المكرمة، فطفنا وسعينا وتحللنا من إحرامنا. وبعد استراحة يوم، توجهنا إلى الطائف عن طريق كر العقبة، فوجدنا الأهل بذلك المصيف اللطيف على خير حال.
وكاد الوالد المرحوم غير راض عن تصرف وكيل الوالي أمين بك الشاعر، الذي نقل بعد مدة وجيزة، وتوجهت الوكالة بالولاية إلى المشير عبد الله باشا الشركسي، قومندان القوة العثمانية بالحجاز.
شكل الإدارة العثمانية
قبل منشور الكلخانة، كانت الدولة العثمانية، من عهد عثمان الأول وأورخان، لا تشبه دول ملوك الطوائف؛ وكانت نشيطة فنية إدارية، حيث قدر لها الله ذلك وأن تسود الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، ضامة الخلافة النبوية العربية إليها، فكانت في طراز إدارتها، بالنسبة لعصرها حين ذاك، خيرا من غيرها.
وكان أول مقام عرف، مقام قاضي العسكر، فهو القاضي الأكبر للبلد، والقاضي الذي يسير مع الجند في الحروب والغزوات. وإذا سار ترك من يخلفه باسم وكيل قاضي العسكر. وكانت للقضاة الكرامة التي للقواد. ثم أسست الإدارة الملكية، وعين لها أشخاص، يسمون بيلربه أو ميرمران. ففي بلاد الأناضول بيلربه، وفي الروم ايلي بكلربكي. وفي معينات كل واحد من هؤلاء، أمراء ديوان على المتصرفيات بعد الولايات، منوط بهم أمر الجند الباش بوزق. وأما القضاة فهم بيدهم الإدارة أيضا؛ فإذا احتاجت الدولة إلى حرب وطلبت جندا، قام بكلربكي، أو الميرمران، مع أمراء الديوان، فجمعوا الجموع وتوجهوا إلى حيث يطلب إليهم.
كانت تمشي الحال على تلك الوتيرة أو ما قاربها، تحت رئاسة الصدر الأعظم في الديوان الملكي (ديوان هومايون). أما بعد منشور الكلخانة، فتأسست الولايات على الطراز الجديد، وتأسس الجند أيضا على ما ذكرنا تأسيسا جديدا. ثم بعد إعلان القانون الأساسي سنة 1293، جاء الحكم الدستوري، الذي سارت عليه الدولة إلى أن انفصل عنها العرب.
صفحه نامشخص