كأنه جمالت صفر ، أذكرتني كلمة «جمالة» بالجمل، فحفظتها عن ظهر غيب، فأكرمت بذلك السبب بما يكرم به أمثالي، فزاد شوقي إلى التعلم. ولما شرعوا يحفظوننا القرآن الكريم، كان الأخ المرحوم الملك علي وصل في حفظه سورة (الإسراء)، وكنت قد وصلت في حفظي سورة (الرعد)، وكان أخي فيصل يتحفظ سورة (الأعراف). أما الشيخ علي منصوري فله الفضل في تمييز الأصولين في القراءة القديمة والجديدة، وأما الشيخ ياسين فهو الذي فتح الله علي بسبب دماثته وحسن احتياله، رحمهما الله وأسكنهما فسيح جنانه.
أما الخط، فأول من علمني الشيخ عثمان اليمني، ثم الشيخ عبد الحق الهندي، ثم نوري أفندي التركي. وكان الأول أشرسهم، أما الثاني فأتقنهم لخطي الثلث والنسخ، وأما الآخر وهو نوري أفندي فكان أملكهم لخط الرقعة العثمانية. وكان الشيخ عثمان يأمرنا أن يكتب كل واحد منا مئة سطر في اليوم للتمرين، وكانت لي معه قصة عجيبة؛ فلقد كان رحمه الله دامي اللثى كريه الفم، وكانت المحابر على الطراز القديم من تلك التي لها أنبوبة لحفظ الأقلام ملتصقة بها الدواة، وكان الورق يصقل بمصقلة بعد أن يمحى ما كتب عليه بالأمس للاقتصاد، وكانت له عادة يألفها، وهي بئست العادة بالنسبة لفمه الدامي وللثاته المريضة، فكان يلعق الأقلام فتدمي هي أيضا متلوثة بدمه، فيكتب بذلك ثم يعيد القلم في المحبرة فيتهيأ منها هنالك خليط قذر. فعمدت يوما إلى حوش كان للأغوات - أي الخصيان - بها مراكن من الفليفلة الحمراء الشديدة الحرارة، وأخذت منها قدرا وضعته - بعد أن أجدت دقه - في دواة أخي المرحوم فيصل. ولما كان الغد، وجاء بعدي الأخ المرحوم يقدم للشيخ ما كتب، وقفت لأنظر ماذا يحصل، ولما أن لعق القلم وجد لذع الفلفل في اللثاة والشفتين، فتألم، ثم اشتدت به الحالة فطلب الماء فازداد ألمه وورم فمه، فطلب أن ينظر في الدواة وإذا بها الفليفلة، فأمر بأخي - عقابا لما وقع - أن توضع رجلاه في (الفلكة)، فأخذ يبكي ويقسم أنه لم يفعل، وأنا قائم أضحك، فقال القيم على الدرس: ما يضحكك؟ فهربت لاجئا إلى الجدة الكبيرة، وقصصت عليها الواقع كما هو ورجوتها أن تنجد أخي، وإذا بهم قد وقعوا على طبعة رجلي عند مركن الفليفلة، فعرفوا أن ذلك من عملي. وقد سمع أبي بما وقع، فأرسل في طلبي، فاختبأت عند جدته رحمها الله، فحضر بذاته ليحملني إلى الشيخ لأعاقب على جريمتي، فرفضت الجدة تسليمي إليه وقالت: اسمع سبب ذلك. فقصصت عليه الخبر فسرى عنه، وأخذ يضحك لما عرف السبب، وقر قرارهم على أن يمنحوا الشيخ كسوة جليلة وهبة نقدية وأن يصرف بعد الاعتذار إليه، فصرف. وقد بلغ الخبر بعد أيام المرحوم الشريف عون الرفيق بن محمد أمير مكة وعم والدي، فطلبني إليه، فلما جئته أخذ يضحك ويتعجب من عملي ويقول: فطنة غريبة عجيبة! وأمر بإحضار الشيخ عثمان وإحضار طبيب الأسنان عبد الغفار، ولما حضر قال: يا عثمان، تريد أن تعلم أبناءنا الخط وهم علموك كيف تكون النظافة! يا عبد الغفار اخلع أسنانه. فأخذ الشيخ يصيح ويستغيث بي، وكان الشريف مازحا، فكافأه بهبة قدرها ألف وخمسمائة ريال، وأوصاه بأن يتداوى.
صاحب المذكرات في طفولته.
نحن ذوو عون
إن عونا هذا الذي تنتمي إليه الأسرة الهاشمية الملكية، هو عون بن محسن بن عبد الله المار ذكره، تفرعت منه ثلاثة فروع: فرع محمد وهم أهل الإمارة، وفرع هزاع، وفرع ناصر. فأما محمد وهزاع فهما ابنا عبد المعين بن عون بن محسن بن عبد الله، وأما ناصر فهو ابن فواز بن عون، وهذا الفرع فيه إمارة الطائف عندما تكون الشرافة في ذوي عون، والشرافة في عون هي لبني محمد بن عبد المعين.
مكة ومصيفها
مكة المكرمة عاصمة الإسلام وبلد الله الحرام الآمنة المطمئنة، والطائف مصيفها. وبمكة يجتمع المسلمون بسبب الحج، وهو موسم الإسلام. بلد الرفادة والوفادة والسفارة والإيلاف. مصيفها الطائف، وما أبهج الرحلة إليه في تلك القوافل، المزدانة هوادجها ومحاملها بالجوخ الأحمر والبسط الفارسية الجميلة، وما أبهى مراحلها وخيامها والاجتماع بها.
تخرج القوافل عادة من مكة، إذا قصدت الطائف، بعد غروب الشمس، إلى الزيماء أو سولة المرحلة الأولى، كي تقطعها في براد الليل، فتصل إلى الزيماء أو إلى سولة بعيد الشروق، فتجد خيامها وقد بنيت على العين وسط البساتين الخضراء، فتقضي بها زهاء سبع ساعات، ثم تسافر بعد الظهر بثلاث ساعات آمة المرحلة الثانية، وهي ذات عرق تعرف اليوم بالسيل، وهذه المرحلة في طرف السراة، حكمها حكمه في لطافة هوائه وبرده وشجره، فتصل إلى السيل مع الشروق. والسيل هذا نهير يجري دائما ولا ينقطع. وبعد أن تأخذ القسط من الراحة، وتعلو الدواب وتتغدى، يستأنف السفر بعيد الظهر، فتصل الطائف قبل الصبح، وهما أطول مرحلة. وفي القفول من الطائف إلى مكة، يكون السفر منه في ضحوة النهار، ليدخل المسافرون مكة في منتصف الليل، بعد مسير يومين. وفي هذه المرحلة المتعة الممتعة للصبيان، فيركبون أنواع وسائل السفر، من جمال عراب عليها المحامل الظريفة، إلى بغال فارهة وخيل أصيلة وذلائل عمانيات، أو ركاب أحرار عليها رحال الميس، وفوق هذه الفرصة التحرر من الدرس.
أقمنا على هذه الحالة، من طلب للدراسة الابتدائية ورحلات مسرة، حتى عام 1309، فطلب الوالد إلى الأستانة، لاختلاف حدث بينه وبين عمه أمير مكة المرحوم عون الرفيق بن محمد، وبهذا ختمت الدورة الأولى لي ولإخوتي في وطننا الحجاز الأقدس، الذي لا شبيه له في الأوطان، لنستأنف الدراسة في الأستانة، عاصمة آل عثمان.
في السفر إلى الأستانة
صفحه نامشخص