في القطار لم تعد سعاد تقفز من الفرح، ولم تعد تجري لتجلس بجوار النافذة، لكن قلبها لا زال يدق وهي تحس حركة القطار السريعة، واللذة القديمة تسري في جسدها وهي تتابع بعينيها أعمدة السواري وهي تتراجع إلى الخلف في سرعة جنونية، وقالت أمها إنهم مسافرون إلى بيت جدتها في كفر الباجور، وأنها سوف ترى أيضا جدها وخالها وخالتها في الدوار الكبير، ولم تعرف سعاد ما هو الدوار الكبير، وقالت أمها: إن أباها له بيت كبير في كفر الباجور يسمونه الدوار، كان يعيش فيه جدها الكبير الشيخ الباجوري، وكان غنيا عنده أرض كثيرة وعبيد سود، لكنه مات وترك أولادا كثيرين من زوجاته الثلاثة، وباع أبوها نصيبه من الأرض؛ لأنه لم يكن يحب مشاكل الأرض والفلاحين، ولأنه كان ينفق أموالا كثيرة على نفسه وعلى مزاجه، ويحب السهر وشرب الخمر، ولم ينزل إلى كفر الباجور منذ وفاة أبيه إلا مرة واحدة، وهذه هي المرة الثانية، وهي ليست زيارة لأقاربه الفلاحين، ولكنها هجرة من القاهرة إلى القرية؛ لأن القرية فيها حرب والقنابل تسقط من السماء على البيوت فتهدها وتحرقها.
أذناها تتابعان صوت أمها، وتلتقطان لأول مرة كلمات جديدة لم تسمعها من قبل: الحرب، القنابل تسقط من السماء، وعيناها تتسعان في دهشة تنظران إلى السماء في وجل، كيف تسقط السماء القنابل؟ ومن الذي يسقطها؟ هل هو الله؟ وهو الوحيد الذي يسكن السماء، ولماذا يهد الله البيوت ويحرقها؟ هل يعاقب الناس الذين لم يطيعوه ولم يصلوا أمثال مختارة ولم يصوموا؟ أم يعاقب جدها لأنه يحب السهر وشرب الخمر، وشرب الخمر حرام كما سمعت من أبيها؟ أم أن الله يهد البيوت لأن يوم القيامة سيقوم، وكل الناس ستموت، وهي ستموت، وأبوها وأمها وأخيها وأختها؟ وكلهم سيموتون؟ واتجهت عيناها إلى أمها فيهما نوع من الفزع الغامض، والحيرة، والتساؤل، لماذا يعاقبهم الله كما يعاقب الآخرون الذين لا يصلون ولا يصومون، مع إنها تصوم وتصلي، وأبوها يصوم ويصلي، وأمها تصوم؟ ... لكن أمها تقول لها إن الله لا يسقط القنابل على البيوت والناس، وإنما تسقطها طائرات الأعداء، وترن كلمة «الأعداء» في أذنيها فتتذكر على الفور كلمة «الإنجليز»، فتقول: الإنجليز هم أعداؤنا، ويتدخل أبوها في الحديث ويقول لها: الإنجليز هم أعداؤنا يا سعاد، لكننا نساعدهم الآن في حربهم ضد الألمان، وطائرات الألمان هي التي تسقط القنابل على مصر.
ولا تفهم سعاد شيئا مما قاله أبوها ، فكيف يكون الإنجليز أعداؤنا ثم نساعدهم، ولماذا يسقط الألمان القنابل علينا، هل هم أعداؤنا أيضا؟ ويقول أبوها إن الألمان والإنجليز أعداؤنا، لكننا نكره الألمان أكثر من الإنجليز، ونساعد الإنجليز ضد الألمان، وبعد أن نطرد الألمان سنطرد الإنجليز، وتصبح بلدنا حرة وليس فيها أعداء.
وأطبقت سعاد شفتيها في صمت، محاولة أن تبتلع شعور الخوف في أعماقها، والعالم من حولها يبدو رهيبا غامضا مليئا بالأعداء، إنجليز وألمان وعفاريت ولصوص وجنيات تخرج من قلب البحر، والسماء أيضا تبدو رهيبة غامضة، تعجز عيناها عن الوصول إلى قاعها، وعقلها عاجز عن تصور الله، وكيف يمكن أن يجلس أو ينام فيها ويظل معلقا هكذا في الفضاء ليل نهار، وماذا يحدث لو أن طائرة من طائرات الألمان اصطدمت بالله في السماء، أو أن قنبلة من القنابل انفجرت في الجو وأحرقت الله؟ هل يموت الله؟ وإذا مات الله فهل هي تواظب على الصلاة وتذهب إلى المدرسة؟ أم أن القيامة تقوم والناس كلها تموت، بما فيهم المدرسين والتلاميذ، ولا تصبح هناك مدرسة ولا دروس ولا امتحانات ولا سقوط ولا أي شيء؟
صدرها كان يعلو ويهبط كأنما قلبها يدق دقات سريعة، مزيج من الخوف والفرح، لكن الفرح أكثر من الخوف، والخوف غامض غموض الموت، والموت بعيد، أبعد من أن تتصوره أو تعقله، لكن المدرسة والدروس والامتحانات ماثلة في ذهنها كجزء منها، كأكبر جزء من عقلها، لا تفارقها بالليل أو بالنهار، فهي بالنهار تجلس وتذاكر دون أن تفهم، وهي بالليل تجلس في الامتحان دون أن تجاوب والموت في عقلها غامض وبعيد، بل ومستحيل، لكن الامتحان قريب والمدرسة قريبة، لا تبعد عن البيت إلا بضع خطوات، وقلبها يدق بالفرح متصورة أن قنبلة سقطت من السماء فوق المدرسة فهدتها وأحرقتها، وأحرقت الأدراج الخشبية والكتب والكراريس وأسئلة الامتحان.
وقفزت من مقعدها وقد سمعت صوتا يشبه صوت الانفجار، لكنه لم يكن قنبلة، وإنما بوق السيارة يدوي، وصراخ الأطفال وقد ركبوا على مؤخرة السيارة وحوطوها من كل جانب وهم يهللون ويصرخون ويغنون: حسن بيه يا حسن بيه، نورت الكفر يا حسن بيه، ولمحت من بين وجوههم المغطاة بالذباب وجه زكي ابن عمتها، فابتسمت له، وجرى زكي بقدميه الحافيتين ومد يده خلال نافذة السيارة وأمسك يد أبيها وقبلها وصوته يهتف بنشوة: الدنيا نورت يا خالي البيه، حمدا لله على السلامة.
وتوقفت السيارة أمام بيت جدتها الطيني، وخرج من البيوت الطينية المجاورة رجال بالجلاليب ونساء بالطرح السوداء، ووقفوا يطلون على السيارة بعيونهم المتسعة وأفواههم المفتوحة، فهم لا يرون سيارة إلا مرة أو مرتين في العام، حين ينزل إلى كفر الباجور موظف كبير مثل حسن بيه أبو زيد.
ويزدحم الزقاق الضيق بالرجال والنساء والعمات والأعمام وأولاد العمات وأولاد الأعمام، والكل يهتف: ألف مرحب، يا ألف مرحب، الكفر نور، الدنيا نورت، وأصوات الرجال تختلط بأصوات النساء بأصوات الأطفال، والتراب يتصاعد مع الأصوات في الجو.
وتكون الحاجة آمنة قد سمعت زمارة السيارة، والتقطت أذناها اسم ابنها حسن بيه، فخرجت إلى الشارع وسارت بين الجمع بقامتها الطويلة النحيلة، والأصوات من حولها تهتف لإفساح الطريق لأم البيه، وتشد عضلات ظهرها في كبرياء لترفعه، وترفع رأسها فوق الرءوس، وعيناها الضيقتان بغير رموش تتسعان وتبحثان عن ابنها، تلتقطانه من بين الوجوه، عيناها تسبقان قدميها، وذراعاها مفتوحتان قبل أن تصل إليه، وما أن يهبط من العربة حتى تتلقفه بين ذراعيها، تقبله وتلثمه، تلثم وجهه ورأسه وطربوشه وعنقه وتشم رائحته، رائحة ابنها الوحيد، وحيد على ست بنات، تركه أبوه صغيرا وهي التي علمته، شقيت وتعبت وجاعت لتعلمه، والحلم أصبح حقيقة، وهو الآن بلحمه ودمه ببدلته وطربوشه، يأتي إلى الكفر في سيارة وليس على حمارة، ومن حوله أولاده الثلاثة صلاة النبي أحسن، وزوجته الست الهانم بنت البيه الكبير.
ويأتي الدور عليها بعد أبيها وأمها لتعانقها جدتها، تلف ذراعيها الطويلتين المعروقتين حول صدرها، وتقبلها عدة مرات وهي تضغط عليها، وتخنقها أنفاسها المختلطة برائحة التراب والعرق واللبن والقشدة والفطير المشلتت، وتحاول التملص منها فتتسلمها عماتها واحدة وراء الأخرى، تقبلها وتلثمها وهي تردد: اللهم صل على النبي، صلاة النبي أحسن، الدنيا نورت يا حسن بيه، الدنيا نورت يا ست سعاد.
صفحه نامشخص