وجاء امتحان آخر العام، ولم تنجح سعاد، وضربها أبوها وحبسها في حجرتها يومين بدون طعام، وجلست إلى مكتبها وأمامها الكراريس والكتب، لكن عيناها كانتا تهربان بعيدا وتنفذان من خلال النافذة إلى الحقل، على حافة القناة رأت صبري يروي الزرع مع أبيه ويضحكان، وحسدت صبري لأن أباه يضحك معه ولا يضربه ولا يحبسه، وقد نسيت في تلك اللحظة بيت صبري الطيني وأمه وأخوته، وتمنت لو أن صبري أعطاها أباه وأعطاها الفأس والحقل، وأخذ منها الكراريس والكتب وأخذ أباها أيضا.
وقبل أن تنام سعاد لم تأت أمها لتربت على ظهرها حتى تنام، ولم تحضر إليها أي طعام، ونامت وهي جائعة، وحلمت أن أباها مات، وأن أمها تبكي، وهي تحاول أن تبكي لكنها لا تستطيع، وتحاول أن تتحرك لكن قدماها ثابتتان في الأرض، وهي وحدها في شارع واسع مظلم، وتحاول أن تجري لكن ساقاها عاجزتان عن الحركة، وفجأة ترى ذلك الشبح الطويل، عيناه حمراوان فيهما الشرر، وتصرخ لكن صوتها لا يخرج.
وتفتح عينيها فجأة فترى أمها إلى جوارها، وتسألها في فزع: أين أبي؟ وتقول لها إنه نائم في حجرته، وتحمد الله بينها وبين نفسها أنه لم يمت، وأنها كانت تحلم، ثم تغمض عينيها وتنام من جديد.
وفي المدرسة وجدت سعاد نفسها في الفصل القديم، ووفدت عليها التلميذات والتلاميذ الجدد الأصغر منها، وأحست فجأة أنها كبيرة الجسم وطويلة، وأصبحت تحني قامتها قليلا وهي تسير في الطابور حتى لا يلحظ أحد أنها أكبر تلاميذ فصلها، وفي الفصل أجلسها المدرس في الصف الخلفي مع التلاميذ والتلميذات الراسبين، وسمى هذا الفصل بصف الساقطين، وبمجرد أن يخطئ الواحد منهم في جملة أو ينسى كلمة حتى تلسعه عصا المدرس وترن في أذنيها كلمة: يا ساقطة.
واشتدت كراهية سعادة للمدرسة والدروس والمذاكرة، وارتبطت في ذهنها بنوع من المهانة والخزي من طول قامتها، وتنظر إلى نفسها في المرآة وتكره جسمها الكبير، وتود لو كانت صغيرة الجسم مثل فاطمة التي رسبت معها ومع ذلك جسمها صغير، ولا يمكن لأحد أن يفرق بينها وبين التلميذات الجدد، وتلعب معهم في الفناء وكأنها واحدة منهم.
لكن سعاد كانت تقف في الفناء وحدها، تخجل من اللعب مع تلاميذ وتلميذات فصلها الصغار، وقد تلعب أحيانا مع بعض زملائها القدامى، ومنهم مختارة بنت المأمور التي لعبت معها الكرة بعض الأوقات.
وكانت تشعر بنوع من الزهو وهي تلعب مع مختارة، وأحيانا تجلس معها بعد انتهاء الحصص على الدكة الخشبية في الفناء وتتحدثان، وقد تنضم إليهما سميرة صديقة مختارة، ويرن في الجو صوت بوق السيارة، فتتركهما سميرة وتركب السيارة الحمراء إلى جوار أبيها دكتور الصحة، وما هي إلا لحظات حتى يقبل العسكري الذي يحمل حقيبة مختارة، ويأخذها إلى البيت داخل العربة البوكس، وتعود سعاد إلى بيتها سيرا على قدميها وحقيبتها تحملها في يدها، وتشعر بينها وبين نفسها أن أباها فقير ليس عنده عربة وليس عنده عساكر.
وتتساءل بينها وبين نفسها وهي سائرة: لماذا أعطى الله المأمور عربة وعساكر ولم يعط أباها؟ وهل الله يحب المأمور أكثر مما يحب أباها، مع أن أباها يطيع الله ويصلي له كثيرا ويصوم، وهي أيضا تصلي وتصوم، وأمها تصلي وتصوم كل شهر رمضان ما عدا تلك الأيام القليلة التي تمرض فيها؟ وينتابها إحساس غامض بالغضب من الله، وأن الله لا يحب أباها حبا كافيا، أو يفضل المأمور عليه، ويفضل عليه دكتور الصحة، وأن الله يحب مختارة أكثر منها لأنه جعلها ابنة المأمور، ويحب سميرة أكثر منها لأنه جعلها ابنة دكتور الصحة.
وتخبط سعاد الأرض بقدمها في غضب وهي تمشي على قدميها في الشمس المحرقة، وأصابع يدها متورمة من ثقل الكراريس والكتب داخل الحقيبة، وتتخيل مختارة وهي جالسة في العربة والعسكري يحمل عنها حقيبتها.
إلا أن هذا الغضب سرعان ما يتلاشى حين تلمح زميلتها «فاطمة» وهي تتأرجح على عكازها الخشبي، تلهث وهي تعرج بخطوتها البطيئة الثقيلة، يتصبب من جبهتها العرق.
صفحه نامشخص