وفي يوم جاء ميشيل وسأل سعاد قائلا: لماذا تخاصميني يا سعاد؟ وردت عليه سعاد بأنه كافر وسيدخل النار، وهي مسلمة وستدخل الجنة، وهي لا تريد أن تكلمه لأن الله قد يدخلها النار معه إذا صادقته، وقال لها ميشيل إنه ليس كافرا، وإنه سيدخل الجنة مثلها لأنه يؤمن بالله وبالمسيح ابن الله، وقالت سعاد إن الله لم يلد المسيح ولم يلد أي حد، ورد ميشيل أن المسيح ابن الله، وإلا فمن أين جاء المسيح، وهل يمكن أن يولد أحد بدون أب؟ ولم تعرف سعاد كيف ترد على السؤال، وكانت تعرف من قبل أن الطفل لا يولد إلا إذا نام الأب والأم في سرير واحد، وانتظرت حتى عادت إلى البيت وسألت أباها، وقال لها أبوها: إن سيدنا عيسى ولدته ستنا مريم العذراء بغير أب؛ لأن الله نفخ من روحه فيها، وهذه هي إحدى معجزات الله، والله قادر على كل شيء، وهو الذي خلق الإنسان، وهو الذي خلق السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم وكل شيء في الكون، خلقه كله في سبعة أيام، ويستطيع أن يهده كله في لحظة واحدة بأن يأمر السماء فتسقط فوق الأرض ويموت كل الناس.
وتتساءل سعاد بدهشة: هل يمكن أن تقع السماء على الأرض يا أبي؟ ويرد أبوها: طبعا يا ابنتي، وسوف يحدث هذا في يوم القيامة حينما يأمر الله الشمس والقمر والسماء فتسقط كلها فوق الأرض، ويموت كل الناس، ثم يصحون مرة أخرى ليحاسبهم الله على أفعالهم في الدنيا، ويمشون على الصراط المستقيم، وهو حبل طويل رفيع كالشعرة مشدود فوق النار، وفي نهايته الجنة، وتفتح سعاد فمها مشدوهة وتقول: وكيف يسير الناس على هذا الحبل الرفيع يا أبي؟ ألا يسقطون؟ ويقول أبوها وهو يفرك يديه في حماس: الذين يسقطون هم الكفرة والمشركون والذين لم يطيعوا الله من المسلمين، وهؤلاء يترنحون ويسقطون في النار، أما هؤلاء المسلمين الذين أطاعوا الله ورسوله فيمشون فوق الصراط المستقيم بسهولة ويصبح جسمهم خفيفا، ويعرفون كيف يحفظون توازن جسمهم، ويجرون فوق الصراط إلى أن يصلوا إلى الجنة. وتظل سعاد فاتحة فمها في دهشة، ويظل السؤال يتردد في عقلها: كيف يمكن لإنسان أن يمشي بقدميه فوق شعرة رفيعة؟ ألا تنقطع الشعرة؟ ألا يسقط جسم الإنسان من فوقها؟ وكيف يمكن أن يحفظ الجسم توازنه؟
السؤال كان يخطر في عقلها حين تجتاز قناة الماء فوق تلك الماسورة الرفيعة، وهي أغلظ بكثير من الشعرة، ومع ذلك فإن جسدها يترنح وتكاد تسقط في القناة، لولا أن القناة ضيقة، وهي تقفز بسرعة إلى الناحية الأخرى قبل أن تسقط في الماء.
وفي يوم من الأيام ذهبت سعاد مع أبيها وأختها وأخيها إلى السرك الذي نصب خيمة كبيرة بجوار الكوبري على الناحية الأخرى من النيل، وجلست سعاد إلى جوار أبيها تتابع ألعاب الحيوانات في سعادة ولذة، إلى أن جاء دور الرجل الذي يسير على الحبل المشدود بين شجرتين عاليتين، وتذكرت سعاد على الفور الصراط المستقيم، وتعلقت عيناها وأنفاسها بقدمي الرجل وهما يتأرجحان فوق الحبل، وكلما هم الرجل بالسقوط صرخت سعاد من الفزع، لكن أباها طمأنها وقال لها: إن الرجل مدرب على السير فوق الحبل ولن يقع. واطمأنت سعاد وسألت أباها فجأة: هل الصراط المستقيم مثل هذا الحبل يا أبي؟ وقال أبوها: إن الصراط المستقيم أرفع من الحبل لأنه شعرة. وسكتت سعاد قليلا، وأحست أن من الضروري أن تلتحق بالسرك لتدرب نفسها على السير فوق الحبال الرفيعة جدا حتى لا تسقط من فوق الصراط المستقيم، لكن أبوها أكد لها أن التدريب لن ينفع أحدا في يوم القيامة، ولكن الذي ينفع الإنسان في ذلك اليوم هو صلاته وزكاته وصيامه وطاعته لله ولأبيه وأمه. •••
كثيرا ما كانت سعاد تنسى الصراط المستقيم وتنسى الجنة والنار، وتنطلق تجري في الحقل وتلعب، لذتها وهي تحرك ذراعيها وساقيها في الهواء تفوق أي لذة، وتطغى في عقلها على كل شيء، وتنسيها كل شيء حتى الأكل، فلا تشعر بالجوع، وحينما تنادي أمها عليها من النافذة لأن موعد الغذاء قد حان، تختفي وراء الشجرة وتظل تجري في الحقل، وتحرك ذراعيها وساقيها في الهواء، وتلعب.
وأشد ما كانت تكرهه أن ينادي عليها أبوها لتذاكر، ولا يمكنها أن تختفي وراء الشجرة أو أي شيء، فهي تخاف من أبيها أكثر من أمها، ويد أمها مهما ضربتها فهي لا تؤلمها، وعيناها حين تغضب منها لا تكسوهما تلك الحمرة المخيفة التي تجعل عيني أبيها ليس عيني أبيها وإنما عينا رجل آخر لا تعرفه، وتتراجع إلى الوراء مبتعدة عن أبيها محاولة الالتصاق بأمها، فأمها هي أمها، ومهما أخطأت ولم تسمع كلامها تظل أمها، وحين رسبت في امتحان نصف السنة وحبسها أبوها في حجرتها بغير غذاء ولا عشاء، أحضرت إليها الطعام في حجرتها، وربتت عليها قبل أن تنام، فلفت ذراعها حولها وقالت لها: أنا أحبك يا ماما. فقالت لها: وأنا أحبك يا سعاد. وقالت لها: ولكن أبي لا يحبني. وقالت لها: أبوك يحبك يا سعاد، ولكنك حين تلعبين ولا تذاكرين وترسبين في الامتحان فإنه لا يحبك لأنه يريدك ناجحة. وقالت سعاد: ولكنك يا أمي تحبينني سواء رسبت أو نجحت. وقبلتها أمها وهي تقول: أنا أحبك سواء رسبتي أو نجحتي، ولكني أحبك أكثر حين تنجحين. وقالت سعاد: ولكني لا أحب المذاكرة ولا أحب المدرسة. وتسألها أمها: ولماذا يا سعاد لا تحبين المدرسة ولا تحبين المذاكرة؟
وتطبق سعاد شفتيها في صمت، لا تعرف لماذا تكره المدرسة ولماذا تكره المذاكرة ، كل ما تعرفه أنها تكره الجلوس كل تلك الساعات بغير حركة، وتكره تلك الكلمات التي تحفظها وتسمعها أمام المدرس دون أن تفهم منها شيئا، وإذا نسيت جملة أو أخطأت في كلمة لسعها المدرس بالعصا على يدها ويقول لها يا حمارة، وزميلتها مختارة لا يضربها المدرس ولا يقول لها يا حمارة مهما نسيت ومهما أخطأت، ولم تكن تعرف لماذا لا يضربها المدرس كما يضرب كل التلاميذ حتى قالت زميلتها فاطمة أن مختارة بنت المأمور، وكل الناس في دسوق تخاف من المأمور وتعمل له ألف حساب.
وسألت سعاد أمها عن المأمور، وهل المأمور أحسن من أبيها، ولماذا يخاف الناس من المأمور ولا يخافون من أبيها، وقالت أمها: إن الناس تخاف من المأمور لأنه يستطيع أن يدخلهم السجن، وعنده عساكر، أما أبوها فليس عنده عساكر.
وأغمضت سعاد عينيها لتنام ولتحلم أن أباها أصبح مأمورا، وأصبح لديه عساكر كثيرون يحملون البنادق وكل الناس تخاف من أبيها، وفي الفصل يبتسم لها المدرس ويربت على ظهرها كما يفعل مع مختارة، ولا يضربها ولا يقول لها يا حمارة.
وفي الصباح جاء أبوها إلى حجرتها وربت على ظهرها، وقال لها إن أمامها فرصة جديدة للمذاكرة حتى لا ترسب آخر العام، وإنه سيشتري لها إذا نجحت هدية جميلة، ولفت سعاد ذراعها حول أبيها وقالت له: أنا أحبك يا بابا. وقال أبوها وهو يربت عليها: وأنا أحبك يا سعاد، ولكني لن أحبك إذا رسبت مرة أخرى.
صفحه نامشخص