إلا أن عقلها ظل لفترة من الوقت عاجزا عن تصديق أنها حين تكون وحدها لا تكون وحدها، وأن عينين أخريين تريانها مع أنها لا تراها، لم تستطع أن تدرك كيف يمكن لتلكما العينين أن تخترقا السقف والجدران والباب وتصل إليها وهي جالسة وحدها في حجرتها، أو تحت السرير، وهل يمكن أن يكون الله مثل الأرواح الشريرة والعفاريت التي تدخل من ثقوب النافذة وشقوق الباب؟ وتصورت أول الأمر أن الله قد رآها وهي تسرق اللب؛ لأنها كانت واقفة في الشارع بجوار عربة اللب، ولا يفصلها عن السماء سقف، ويمكن لله وهو في السماء أن يراها بسهولة، لكن أسئلة كثيرة خطرت لعقلها، كيف يقف الله في السماء؟ وهل هو يقف أم يجلس، وهو في كلا الحالين سواء الجلوس أو الوقوف لا يستطيع أن ينظر إلى الأرض، ولا بد له أن ينام أو ينبطح ليتجه وجهه إلى أسفل ليستطيع أن يرى الأرض ويراقب الناس وهم سائرون في الشوارع أو واقفون بجوار عربات اللب، وكيف يمكنه أن يراقب كل هذا العدد الكبير من الناس في كل تلك الشوارع الطويلة الواسعة الممتدة بلا نهاية، وخيل إليها أن الله لم يرها حين سرقت اللب؛ لأنه كان مشغولا بغيرها من الناس في الشارع الواسع، أو لأن هناك عربات لب أخرى في الشوارع الأخرى، وربما كانت محظوظة فاتجهت عيني الله إلى عربة أخرى في اللحظة التي ملأت بها يدها باللب.
إلا أن كل هذه التساؤلات لم تجد الإجابة عنها في عقلها، وأصبحت تتخوف من أن يراها الله حتى وهي داخل دورة المياه والباب مغلق عليها، وتتحرج حين تخلع السروال لتبول متصورة أن عيني الله تريانها، بل كان يخيل إليها أن الله يقف وراءها وتكاد تحس أنفاسه فوق عنقها من الخلف، وتسري فوق جسدها قشعريرة، وتلتفت وراءها بسرعة متصورة أنها ستجد شخصا خلفها لكنها لا تجد أحدا، وسألت أباها مرة: كيف ينفذ الله من خلال الجدران والباب؟ فقال لها أبوها: إن الله روح فقط وليس له جسد، أما الإنسان فله روح وجسد، وخيل إليها أن الإنسان يملك أشياء أكثر مما يملكها الله؛ لأن الله له روح فقط أما الإنسان فله روح وجسد، لكن أباها أمرها أن تستغفر الله ثلاث مرات، فالله يملك السموات والأرض ويملك الكون كله بما فيه الناس، أما الإنسان فهو أحد مخلوقات الله ولا يملك شيئا، بل لا يملك حياته لأن الله يستطيع أن يميته في أي لحظة شاء.
في كل مرة تسمع أباها يتحدث عن الله يزداد خوفها، ويزداد إحساسها بالذنب، وأن الله رآها وهي تفعل كل الذنوب السابقة، وأنها لا محالة ذاهبة إلى النار، ولن تنجو من عقاب الله مهما فعلت، ومهما صلت وصامت، لن الله رآها وانتهى الأمر، ولا يمكن لها أن تخدع الله بذلك السجود والركوع، فالله يعرف أنها مذنبة وأنها تستحق العقاب، وسوف يوقع عليها العقاب سواء صلت أم لم تصل، وأعطاها هذا اليأس راحة كبيرة، فانقطعت بضعة أيام عن الصلاة، ونسيت الكثير مما قاله أبوها، وتخفف قلبها من مشاعر الخوف والذنب التي كانت تلازمها، وعادت تستسلم للذائذ والأشياء التي تحبها، لكنها ظلت تشعر بالذنب كلما مدت يدها لتملأها باللب، وتحس أن الله قد يراها حين تدخل تحت السرير، لكن الإحساس بالذنب سرعان ما يفارقها، ويخيل إليها أن الله لم يرها، وعقلها لا زال عاجزا عن تصور كيف يمكن لله أن يراها، أو أنها تصورت ذلك من قبل، ولم يعد هناك أي أمل في دخول الجنة مهما فعلت، وبدت لها الآخرة بعيدة جدا وموتها بعيدا أو مستحيلا، فلم يكن عقلها قادرا بعد على إدراك أنها يمكن أن تموت.
ولاحظ أبوها انقطاعها عن الصلاة والصوم، وسألها عن السبب، ولم تستطع أن تقول لأبيها إنها اقترفت ذنوبا كثيرة وأن الله رآها وسوف يعاقبها، وقالت لأبيها إنها لا تصلي لأنها لا تعرف كيف تطرد الشيطان، ولا تعرف كيف تفرق بين صوت الله وصوت الشيطان، وهي تحس أنها مذنبة وسوف تدخل النار وصلاتها لن تنفع، وقال لها أبوها إنها لا زالت صغيرة السن ولم تقترف أي ذنوب خطيرة بعد، وأن كل الناس تخطئ، والإنسان بطبيعته يميل إلى الشر ويذنب، لكن الله يغفر الذنوب لمن يصلي ويستغفر الله، وقد خلق الله الصلاة ليعطي الإنسان فرصة ليطلب مغفرة الله، والله غفور رحيم.
وأحست سعاد بالراحة، وعادت إلى الصلاة، وفي كل مرة تتوضأ ترفع صوتها عاليا وهي تردد: أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم، وفي بدء الصلاة تردد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وتسري فوق جسدها قشعريرة حين يصور لها عقلها أن الشيطان لا زال يلازمها، وأنها لن تعرف صوت الشيطان من صوت الله، لكنها بدأت تدرك أن صوت الشيطان هو الذي يهمس لها بالأشياء اللذيذة التي تحبها، مثل سرقة اللب، أو ممارسة تلك اللعبة تحت السرير، أو التهام كعكة محمد، أو ابتلاع الماء قبل موعد الإفطار، وخيل إليها أنها كلما أحست بلذة ما فهذا دليل على أنها فعلت شيئا بأمر الشيطان وليس بأمر الله، ولكن إحساسها بالذنب سرعان ما يتلاشى بعد أن تصلي وتستغفر الله.
وبينما هي تتناول طعام الغذاء ذات يوم، وكانت أمها أعطتها نصف حمامة محشوة بالفريك، وهي تحب الحمام المحشو بالفريك أكثر من أي طعام آخر، وكانت جائعة تلتهم الطعام بلذة شديدة، فجأة تذكرت الشيطان، واعتقدت أنه هو الذي يوحي إليها بهذه اللذة، ونهضت إلى المطبخ وأعطت نصف الحمامة لفتحية، ولأول مرة في حياتها وقد استطاعت أن تقاوم اللذة التي وسوس لها بها الشيطان، كما أنها أعطت فتحية شيئا مما أعطاها الله.
ولم تستطع أن تكتم خبر هذا الانتصار عن أبيها، لكن أباها قال لها: إن الله لم يقل لها أن تعطي طعامها للخادمة، فالخدم لهم طعامهم الذي يعطيه الله لهم، وأصحاب البيت لهم طعامهم، وأن لذة الأكل ليست محرمة، فسألت سعاد عن اللذائذ المحرمة حتى تقاومها، فسكت أبوها لحظة ثم قال لها إنها ستعرف هذه الأشياء حينما تكبر، وأن لذة الأكل ليست ضمن اللذائذ المحرمة.
ومنذ ذلك اليوم أصبحت تأكل بحرية، بل وبشراهة أيضا، فقد أيقنت أن لذة الأكل مباحة، تمارسها دون أن تشعر بالذنب الذي كان يلازمها حين تشعر بلذة أخرى. •••
ظلت سعاد تشعر بتلك اللذة العارمة حين تركب القطار، وتحس حركته السريعة، هو مندفع إلى الأمام، يصفر وينفث الدخان الكثيف، وعجلاته تصطك بالقضبان، وأعمدة السواري تجري متراجعة إلى الخلف بسرعة جنونية، وكانت تقفز على مقعدها من الفرح متصورة أنهم مسافرون إلى بيت جدتها، وأنها ستلعب في الحقل مع زكي وأولاد عمتها، لكن أمها قالت لها إنهم ليسوا مسافرين إلى بيت جدتها في كفر الباجور، ولا إلى بيت جدها في العباسية، ولكن أباها انتقل من الإسكندرية إلى بلدة أخرى اسمها دسوق.
ولأول مرة يلتقط عقلها تلك الأسماء: كفر الباجور، العباسية، الإسكندرية، دسوق، وسألت أمها: هل دسوق فيها بحر مثل الإسكندرية؟ وقالت لها أمها إن دسوق ليس فيها بحر، ولكن فيها نيل مثل النيل في كفر الباجور، وفيها حقول، وفيها بيوت جميلة نظيفة وليست مثل بيوت كفر الباجور، وفرحت سعاد بحجرتها الجديدة في البيت الجديد، وكانت لها نافذة كبيرة عليها القضبان الحديدية، لكنها كانت تطل على حقل كبير تسطع فيه الشمس على سنابل القمح الذهبية، تحوطه أشجار كثيفة تطير فوقها العصافير، وحمام أبيض يقف على أسطح البيوت المنخفضة، وبط يعوم في فناء الماء الصغيرة المجاورة للحقل.
صفحه نامشخص