وفي الصباح دخلت فتحية يمسك بيدها أحد رجال البوليس، كان جسدها يرتعد وعيناها مبللتان بالدموع، وأمسك أبوها الكرباج الرفيع وقال لها: لماذا هربت؟ وفتحت فتحية فمها لترد، لكن صوتها لم يطلع، وضربها أبوها وهي تصرخ حتى كفت عن الصراخ.
واختفت سعاد في حجرتها تحت السرير، كانت خائفة من أبيها، ولم تكن تتصور أن فتحية ستنجو من اللصوص وتعود إليهم، ولم تعرف كيف تركها اللصوص؟ وخيل إليها أنهم تركوها لأنها خادمة فقيرة وليس لها أم، فاللصوص لا تسرق إلا الشيء الثمين، وخيل إليها أن أمها تخاف عليها لأنها شيء ثمين، وشعرت بنوع من الزهو الخفي، الذي سرعان ما تلاشى حين تذكرت أنها كلما ارتفع ثمنها كلما أصبحت معرضة لأن يسرقها اللصوص، وخيل إليها أنها تحسد فتحية، إلا أن هذا الحسد سرعان ما تلاشى حين سمعت صراخها وهي تضرب، وحمدت الله بينها وبين نفسها لأن الله لم يخلقها خادمة مثلها يضربها أبوها وتضربها أمها، وتمسح الأرض وتغسل الصحون، وتنام على الأرض في المطبخ وتأكل بقايا طعامهم، وتعيش بعيدا عن أمها ولا تراها كما ترى أمها كل يوم، وسمعت صوت أبيها الغاضب يناديها، فخرجت من تحت السرير وهي ترتعد، واقتربت من أبيها الواقف في الصالة طويلا عريضا، عيناه حمراوان بالغضب وأصابعه المرتعشة الطويلة تلتف حول الكرباج، وسمعته يقول: لماذا لم تقولي لنا ما قالته لك فتحية؟ ولسعها بالكرباج على ذراعيها وساقيها وهو يقول: لا تخفي عنا أي شيء بعد اليوم. وردت بصوت مرتعش: نعم. وجرت إلى أمها تحتمي فيها.
كانت تقفز من الفرح حين تسمع صوت صديقتها سميرة أو صديقها محمد يناديها، فتجري لتلعب معهما في الشارع، وتشتري كيسا من اللب من الرجل الواقف بعربته، كانت تحب اللب، وأمها ترفض أن تعطيها أي نقود وتقول لها: لا تأكلي شيئا من الشارع وإلا وجعتك بطنك. وفي كل مرة تملأ يدها باللب وتأكله ولا تشعر بأي وجع في بطنها، بل تشعر بطعمه اللذيذ المملح، وبعد أن ينتهي اللب تلعب مع محمد وسميرة الاستغماية أمام البيت، وتختفي تحت دكة البواب حتى لا يراها محمد أو سميرة، وكان البواب رجلا طويلا أسود الوجه يرتدي عمامة بيضاء كبيرة، وحين يرى أباها داخلا أو خارجا ينهض من فوق دكته ويرفع يده ويلامس بها رأسه وهو يقول: صباح الخير يا بيه، وأدركت سعاد أن أباها رجل محترم؛ لأن البواب يناديه باسم «بيه»، مثلما ينادي أبوها جدها ويقول له يا علي بيه.
وكانت سعاد ومحمد وسميرة يجلسون على الدكة الخشبية بجوار البواب، ويحكي لهم البواب عن قريته البعيدة قرب أسوان عند نهاية النيل، وأنه وهو طفل كان يسبح في النيل ويصطاد السمك ويشويه على النار، ورأتها أمها مرة وهي جالسة إلى جوار البواب، فشدتها من يدها وأدخلتها البيت وهي تقول لها: لا تجلسي مرة أخرى مع البواب، إنه مريض بصدره وقد تنتقل الجراثيم إليك عن طريق سعاله وأنفاسه.
ولم تعرف سعاد ما هي الجراثيم، لكنها تصورتها أشياء صغيرة ورفيعة كالثعابين، وأصبحت كلما اقتربت من الدكة التي يجلس عليها البواب تجري وهي كاتمة أنفاسها واضعة يدها على أنفها وفمها.
وفي يوم كانت عائدة من المدرسة تسير في الشارع بخطوتها السريعة تكاد تشبه الجري، تريد أن تصل إلى البيت قبل أن يخطفها أحد من الذين يسرقون الأطفال، والمسافة بين المدرسة والبيت تبدو لها طويلة، والشارع واسع عريض لا أول له ولا آخر، ووجوه الناس تبدو لها غريبة، وعيونهم حين تنظر إليها مخيفة، لا تحاول النظر إليها، ولكنها تنظر أمامها كما قالت لها أمها، وإذا ابتسم لها أحد أو حاول أن يكلمها فلا ترد عليه؛ لأن هؤلاء اللصوص لهم طرق متعددة في جذب الأطفال إليهم.
وبينما هي سائرة بخطوتها السريعة، وعيناها الشاخصتان إلى الأمام لا تتحركان إلى اليسار أو اليمين أو الخلف، سمعت من خلفها صوتا غريبا مفزعا كصوت الرعد، واستدارت إلى الخلف بسرعة بحركة غريزية فرأت الشارع وقد امتلأ برجال لا عدد لهم، يدبون على الأرض بأحذيتهم في عنف، عيونهم متسعة جاحظة في غضب، يلوحون بقبضة أيديهم في الهواء، ويصرخون بصوت واحد بكلمات لم تفهمها، وارتعد جسدها من الخوف، وظنت أنهم سينقضون عليها، فجرت مذعورة حتى رأت باب بيت مفتوح فدخلت واختفت وراءه، وسمعت من خلفها صوت امرأة تقول لها: لا تخافي يا ابنتي، إنهم لن يفعلوا لك شيئا، ولم يطمئنها كلامها، بل أن صوتها الغريب زاد من فزعها، وظنت أنها ستخطفها، لكن جسدها ظل متجمدا وراء الباب عاجزا عن الحركة مبللا بالعرق، وظلت مختفية وراء الباب حتى ابتعدت أصوات الرجال، فخرجت من مخبئها وانطلقت تجري كالصاروخ حتى وصلت إلى البيت وهي لا تزال ترتعد، وسألتها أمها عما حدث، فحكت لها ما رأته، فضحكت أمها وقالت: إنها مظاهرة ضد الإنجليز.
وكانت هذه هي المرة الأولى التي سمعت فيها كلمة الإنجليز، وسألت أباها من هم الإنجليز؟ فقال لها: الإنجليز أعداؤنا، وسألته: وهل الإنجليز ناس مثلنا؟ وقال أبوها: إنهم ناس مثلنا، ولكن وجوههم بيضاء محمرة بالدم، وهم كفرة وليسوا مسلمين مثلنا، ويسرقون أموال بلدنا ويطلقون الرصاص علينا حين نقول لهم: اخرجوا من بلدنا، واذهبوا إلى بلدكم.
أكثر الأشياء من حولها كانت تبعث على الخوف، والعالم خارج البيت تكتنفه المخاوف والمخاطر، وأشد ما كان يخيفها في ذلك الوقت هو أن تتوه في الشارع ولا تجد أباها ولا أمها، لم يعد أبوها يمسك يدها وهو سائر إلى جوارها، وعيناها تظل متعلقتين بأبيها تخشى أن يتوه منها أبوها في زحام الشارع، وساقا أبيها كانتا طويلتين، وخطوته واسعة، ولا يمكنها أن تلحق بأبيها إلا إذا جرت، خطوة أبيها أسرع من خطوتها، فتتشبث عيناها بظهر أبيها، تخشى أن تفقد بين ظهور الناس، وكان الشارع واسعا مليئا بالناس، وظهور الرجال من الخلف تشبه ظهر أبيها، ويضيع منها أبوها في الزحام، وعيناها تتسعان بالذعر كأنما هي تغرق في بحر كبير، ولا أحد يعرفها ولا أحد ينقذها، ويخيل إليها أن عيون غريبة كثيرة تحاصرها، فتجري وهي تصرخ: بابا، ويسمع أبوها صرختها من الخلف فيلتفت وراءه بسرعة، وما أن تلتقط عيناها وجه أبيها حتى تنطلق إليه وتمسك بيده ولا تدعها تفلت منها مرة أخرى.
وعلى شاطئ البحر لم تعد أمها تمسك يدها، وتتركها تسبح في الماء أمامها، لكنها لم تبتعد عنها كثيرا، وإذا ابتعدت فإن عيناها تظلان متعلقتين بوجهها وهي جالسة تحت الشمسية، تخشى أن يضيع وجهها بين الوجوه وتفقد مكانها، وإذا نزلت الماء فهي تظل قرب الشاطئ، تحرك ذراعيها وساقيها في الماء، ثم تقف على قدميها بسرعة لتطمئن أن الأرض لا تزال تحت قدميها، وفي كل مرة تخشى أن تقف على قدميها فلا تجد الأرض تحتهما وتغرق في البحر.
صفحه نامشخص