ما أقساه! وما أشد عذابي في محرابه!
وفقد الجسم الحي احترامه وهيبته؛ أصبح في نظري وتحت أصابعي كالميت سواء بسواء، وتفكك في عقلي إلى مجموعة من الأجهزة والأعضاء. •••
الليل بارد موحش، والظلمة ساكنة ميتة، والمستشفى الكبير بأنوار نوافذه قابع في السواد كضبع متوحش، وأنات المرضى وسعالهم الممزق يهتك ستائر الليل الداكنة. وأنا ... أنا أقف في نافذة حجرتي، وحيدة، أتأمل الزهرة البيضاء الصغيرة التي تتفتح إلى جواري في زهرية الورد، وألمسها بأصابعي، فينتفض كياني كأنني ميت يحس لأول مرة بملمس شيء حي. وأقرب أنفي منها أشم عبيرها، وأشعر كأني سجين مؤبد يضع أنفه بين أسلاك نافذته الحديدية ويشم عبير الحياة. وتحسست رقبتي، ولمست أصابعي ذراعي السماعة المعدنيتين وهما تلتفان حول رقبتي كحبل المشنقة، والبالطو الأبيض يجثم على جسدي وتفوح منه رائحة الكحول والأثير وصبغة اليود.
آه!
ماذا فعلت بنفسي؟!
ربطت حياتي بالمرض والألم والموت. أصبح عملي كل يوم هو أن أكشف أجساد الناس، وأرى عوراتها، وأتحسس أورامها، وأحلل إفرازاتها.
لم أعد أرى في الحياة إلا مرضى راقدين في الفراش، ذاهلين أو باكين أو غائبين عن الوعي، عيونهم كليلة صفراء أو حمراء، أطرافهم مشلولة أو مبتورة، أنفاسهم متقطعة، أصواتهم حشرجة أو أنين.
أيمكن أن أحتمل هذه الحياة إلى أمد طويل ... طول عمري ؟!
وشعرت بانقباض شديد يشبه الانقباض الذي يشعر به السجين المؤبد، حين تختفي بارقة الأمل في الإفراج.
وخرجت من حجرتي، وجلست في الصالة الكبيرة، وفتحت مجلة طبية وحاولت أن أقرأ، لكن أفكاري تسربت بالرغم عني إلى جناح الأطباء؛ حيث ينام زميلي الطبيب، وقد قسمنا نوبتجية الليل بيننا؛ هو ينام الست ساعات الأولى، وأنا الست ساعات الأخيرة.
صفحه نامشخص