وأقامت معنا عشرة أيام أو اثني عشر يوما، ثم سافرت مع أمها إلى ألمانيا وتركت لي ذكرا جمع بين اللذة والشوق المر، كان هو سندي أيام مراجعتي للامتحان، والعزاء الوحيد عن عرس الطبيعة الذي كان لا يفتر يجذبني إليه ببديع جماله.
كم من لحظات كنا نقضيها في الحديث وحيدين جنبا لجنب، سويعات بعد الغذاء قصيرة الأمد، كان يدور حديثنا عن مصر أو عن كندا أو عن مسائل من مثلها لا قيمة لها في الواقع، ولكنها كانت عندي الشهد المصفى، وتركت ذكرا يحييه في نفسي الربيع البديع.
وتعددت هاته السويعات، وأحسست مع ذلك كأن نفسي تتفتح وقلبي يأخذه الخفقان بإحساس لا أقدر على تسميته لأني لا أعرف، وشعرت كأن الوجود الذي حرمني طول هذا العام كل متاع بمعنى الشباب جاد ففاض ببياتركس وبالربيع.
وأجدر هاته السويعات بالذكر سويعة آخر أيامها معنا، وتكلمني عن مصر وشأنها، وتريد مني أن أكتب تاريخ أمتي في قالب روائي، ثم تطلب ضاحكة أن أقدم باسمها رواية من هاته الروايات، نعم بياتركس، من أجل هذا الإهداء الذي تطلبين سأكتب تاريخ مصر مهما كلفني، وليكون ذكرا لأسبوعين سعيدين في أيام الحياة.
آه يا عطية، ما أحلى الحياة حين يسمح لها الخيال بالدخول إلى جناته! ولكن الخيال ضنين.
ولكم كانت بديعة هذه البياتركس، لقد كان في خلقها البريء وفي تلك السذاجة التي كانت مظهرها العام ما يجعلها حلما على الوجود، هي حقا الآتية من كندا ، من بين الغابات الهائلة والسهول الفسيحة والطبيعة البكر، هي بنت ذلك العالم المملوء بالطير والشجر والماء والزهر، وليست بنت عالمنا العتيق الأفن.
كنت يا عطية ولا أزل كلما ذكرتها ذكرت فتيات الأحلام، واللاتي يقال إنهن سيكن في العالم الآخر.
تقضي أسبوعين وهي عندنا، ونمضي كل ليلة في لعب الضامة أو الشطرنج أو ما سواهما، وكل ليلة تضيء الفوانيس الكهربائية بنورها على مجموع ساكن هادئ ولكنه سعيد قانع ... على الأقل كنت أنا في أحسن درجات الرضى، ولكن تلك الليالي الجميلة المحبوبة لم تكن شيئا إلى جانب الليلة الأخيرة.
جاءت أمها تلك الليلة لتبيت عندنا ثم يصبحان إلى ميوينخ، وجاء يقضي سهرته معنا أحد معارفها كما جاء بعض معارفنا، وجلس الكل وصديقي الشاب وأنا في الصالون، وفوانيسه الكهربائية لم تزد عددا ولكنما تضاعف نورها أمام هذا المجموع المبتهج، ولم تكد بياتركس تجد الفرصة لتنسحب من بين أمها وربة الدار حتى جاءت إلى جانبنا لتحدثنا ونحدثها أحاديث الوداع، ونسينا إلى جانب ذلك ما كان من الضجة والسرور والضحك بين سائر الحاضرين.
ولما تقدم الوقت دخل إلى الحاضرين شيء من السكون، ورأيت الضجة تغادر المكان رويدا رويدا حتى كاد يكون أخرسا.
صفحه نامشخص