فإن أنت نزلت من هذه الأماكن الأثرية والطبيعية، ودخلت إلى قلب البلد، وكان ذلك بيوم ماطر كاليوم الذي ساقني فيه الحظ، لشعرت بأكبر السرور حين تدخل من باب دار الصور (المتحف) وتجتاز صحنها إلى البناء، فإذا صرت في صالات هذه الدار المتواضعة الشكل القديمة البنيان المكسرة الأحجار نسيت البلد والمطر والدار وشكلها ورحت بكلك مسحورا بجمال ما ترى من الصور فيها.
رأيت أبدع ما يكون من النقوش في الدور الأول بعد أن استوقفني مدة تماثيل الدور الأرضي، رأيت غروب الشمس في نرمندي، ورأيت مراتع الشاه ومسارح الصيد وكلها من ريشة نقاشين من أهل أفنيون، ولكن الرسم البديع الذي استوقفني أكثر من كل رسم آخر. والذي أخذ مني وقتا أكثر من غروب الشمس ومن الأشجار والمزارع تلك هي القديسة العذراء جاث أمامها مستتيب.
لا أستطيع مهما جاهدت تصوير ما عليه هاته العذراء من الإبداع، هي الخيال، هي الأحلام، هي الجمال، هي الحب، هي السعادة، هي كل ما تشاء من جميل، فتاة دقيقة القوام حادة الأنف ساحرة العينين قد انسدل فوق جسمها الخصب ثوب فياض، ثم لفتها سحابة فستقية اللون، أو هي سماوية وتشف عن ذلك الجمال البديع ... كنت كلما تركتها خيفه انتهاء الوقت وطمعا أن أرى ما سواها رجعت إليها غير مستطيع أن أفارقها الفراق الأخير، وحدقت منها بتلك الصورة الملائكية الناطقة، وذلك المستتيب جاث أمامها ضارع يعبدها، وهل هي إلا المعبود الأكبر.
لقد جال بنفسي أن أجثو أنا الآخر أمامها، أن أضرع إليها إلا سمحت لي بنظرة من سحر عينيها، ثم أرى أمامي حارس الدار فيعلوني ارتباك ويقف هو عنيدا دون ما أشاء، وكل واجبه أن ينبهني إلى فراغ الوقت.
حقا لو أن هذا الجمال على الأرض لعبد، ولكنه على حيطان متحف أفنيون.
الفصل الرابع
في باريس من جديد
4 أبريل
عدت إلى باريس، الآن أتنفس.
كم تضايقت هذه المدة الأخيرة، وكم شاقتني حقيقة باريس، الآن أتنفس بعد الضيق، لقد أمضيت بليون ثلاثة أيام لم أذق لشيء فيها طعما، ووجدتني مدفوعا من كل جانب لأرجع إلى باريس.
صفحه نامشخص