لا أجد عذرا أقدمه عن تأخري عن الكتابة إليك إلا أن أقول إني كنت أبحث عن زمزمية لعمتك ر. وللأسف قد قصر باع باريس دون طلبي، بالرغم من أنه قد عود الناس أن لا يقصر دون طلب.
ابتدأ الجو تداخله البرودة، وصرنا وها نحن على باب الخريف نمتع من غروب الشمس بأبهج منظر ، ولقد كنت في اللكسمبور من ساعة مضت أرقب القرص الأحمر القاني وقد انسابت أشعته مستسلمة تنطرح فوق هام الشجر الذابل وتتوج منه مشيبه، وتلك الفروع تغادرها أوراقها لتسلمها جرداء إلى قسوة الشتاء تفتح أذرعها لوداع الشمس ولوداع النهار.
وأحاطت بالقرص سحب تطوقت منه بطوق من الذهب وانبعث على السماء الشديدة الزرقة سكون مهيب يشع بما دخل نفس الموجودات حين أحست أنها ستستقبل الليل، وبقي النهار يسقط رويدا رويدا مع الشمس وراء الشجر وانعكس على الشرق من النور ما ذكر بالصباح، وأخيرا أفل ذلك كله وأعلن الليل حكمه وسلطانه.
هذا ما عندنا، أما أنتم فمن غير شك لا تزالون تحت سماء صافية لا تشوب زرقتها سحابة وتأتيكم ساعات الغروب بنسيمها العذب.
بالرغم من إني أحسدكم على هذا فأني راض بما عندي قانع بما يحيط بي، ولعلكم أنتم جميعا على ما تحبون.
محمد
حاشية: صديقي ب. يهديك السلام ويطلب إليك متى ذهبت إلى القاهرة أن تهدي السلام إلى جميع إخوانه ممن معك.
18 سبتمبر
لست أستطيع أن أصف تماما حال المسيو ه.ج. النفسية، وإن اختلاف مظاهرها وتلك الحيرة الدائمة التي هي فيها والانتقال من التسليم بشيء إلى الشك فيه إلى التسليم بضده بسرعة غريبة ليدعو للدهشة، ويحس الإنسان حين محادثته أن نفسه في سياحة مستمرة، وتقع من حين لآخر على رأي من آراء العلماء أو الكتاب، وتحسب أنها سكنت إليه ثم لا تلبث أن يعتريها الشك من جديد، وتظل كالنحلة تنتقل من زهرة لتقع على زهرة، وأغرب من هذا شديد تعلقه بالنظر فيما يخص المسائل الدينية وبالبحث عن مقدار ما تقدم من السعادة للعالم، وبالرغم من شديد اقتناعه بأن الديانات كلها إنما هي من وضع الأنبياء، فإن الإنسان ليقرأ في عيونه التائهة النظرات وعلى جبهته الهادئة من معنى السروح شيئا كثيرا.
كان يحدثنا اليوم في هذا الموضوع، ولقد عزا الديانات إلى أصل قديم هو ما ركب في النفس الإنسانية من الضعف وحاجتها أن تلجأ ساعات الشدة لسند ولو موهوم يعزيها عن حالها ، قال:
صفحه نامشخص