De La Paix
ولقد ذهبنا إليها السيد خالد وأحد أصحابه وأنا، ووجدت هناك صديقي سعيد مع آخرين، ومن بينهم كثيرون ممن كانوا معنا في الباخرة، أشخاص ذوو وجاهة في مصر ومن قضاة ومحامين وأطباء وأعيان ومن لا أعرفهم.
من أثقل ما يضايق في هذا البلد كثرة المطر ونزوله على غير ميعاد، فبينما نرى الشمس زاهية والسماء صافية والنور يملأ الجو إذا السحب انتشرت وعبس الكون وهمت السماء وفرد الناس مظلاتهم (أو مطرياتهم كما يسمونها) وحل محل النور والسرور قطوب تضيق له النفس؛ ذلك شأنها من يوم نزلنا، وهو على ما يقولون شأنها دائما.
قمنا من القهوة ورجعت إلى الدار وأخذت طعامي وأنا صامت لا أدري ماذا أقول لأكون مع هذا الجمع الطويل العريض الذي يحكي عما رأى وعن المخازن وما فيها والأقمشة والأثواب وكل ما لا أفهم من شأنه لا قليلا ولا كثيرا ... ثم انتقلت إلى غرفتي وإلى الوحدة المطلقة حيث لا يعلم أحد أحد بالزفرات التي أصعد ولا يهتم إنسان بآلامي، حيث أنا الآن مفرد ليس لي على الأرض التي أسكن أهل ولا صديق.
18 منه
اتفقت عصر اليوم مع الأستاذ والبك لنذهب لسان كلو.
الأستاذ شخص ربعة جميل التقاطيع كبير الأنف دقيق النظرات، أرسل ذقنه نصف قبضة وهي لا تخلو من بعض التجعد، حلو الحديث جذاب، والبك رجل طيب عظيم الخلقة، وكلاهما من أعيان المصريين.
أخذنا القارب من عند اللوفر، فسار يشق ظهر النهر المنحدر يخرق البلد ومبانيها الهائلة حتى صرنا في الضواحي وقامت عند الشواطئ الأشجار والغياض، والسماء فوقنا تسبح فيها سحب بيضاء فتزيد الأزرق منها زرقة، والشمس طرحت ضوءها على بساط الماء ولفت الخليقة في نورها.
وصلنا سان كلو وتدرجنا مرتفعين حتى وصلنا بستانها، فجعل صديقنا البك يرينا من جمالها رائعا، ويدلنا منها على أبدع ما نسقت يد الإنسان.
دخلناها فإذا هي الطبيعة في أجمل مظاهرها والخليقة في أبهج جمالها تصعد إلى أعاليها، وعن يمينك الخضرة الناضرة وعن يسارك الأشجار الباسقة، فكأنما قد اجتمعت في ذلك المكان مظاهر السعادة وآياتها، ولا يسع القلب ساعة ترى العين كل هذا الجمال إلا أن يخشع اعترافا للخالق بقدرته وعظمته، ولعل ما عملته يد الإنسان في هذا الغاب مما يزيده جمالا وبهاء ويكسوه من ثوب النظام حسنا وإن كان تنسيق الطبيعة جميلا في ذاته. ظللنا زمنا لم يكن مع الأسف طويلا نعلوا حزنا ونهبط بطنا بين جنان بالغة الزهر بديعة الشكل يطلعك الحزن على ما حواه السهل حتى موقف النظر، ويريك المنخفض بها المرتفع وجمال تدرجه في الارتفاع، أضف إلى ذلك البهاء والجمال الصمت المهيب إلا من أغاريد الطير تصبها من جوها بين أوراق الشجر وأغصانه في أذن الخليقة فتهيج شجوها وتزيدها طربا.
صفحه نامشخص