بعد أن مكثت برهة بالباخرة نزلت إلى الشاطئ ومررت بالجمرك، ثم أخذت عربة وضعت فيها ما معي وركب شيال إلى جانب السائق واخترقت المدينة وسط شوارع ضيقة مملوءة بالتراب يمر بها رجال ونساء عليهم جميعا مظاهر البؤس والفاقة، والحوذي على مقعده على مقعده لا يفتر ينادي: «يمينك. شمالك. اوعى رجلك. أنت يا شيخ هناك. يا واد يا ابن ال ... يا ست. أنت يمينك. أنت يا أطرش»، ويفرقع بكرباجه، وخيوله الضئيلة ظاهرة ضلوعها باهت لون شعرها تجري ساعة وتمشي أخرى، وأخيرا انتهينا إلى الشارع الخارجي وبعد لحظة كنا عند البيت الذي أقصد.
هذه أول مرة رأيت فيها بورسعيد، ولا أدري إن كان مظهر البلد حقيقة مظهر غير نظيف أو أن مقابلتي إياها بالمدن الأوروبية التي عشت فيها سنتين هي التي جعلتني أحكم عليها هذا الحكم؛ إذ بالرغم مما كنت أسمعه من أهلها من مدح تنظيم مدينتهم وجمال ترتيبها والمشروعات التي نفذت، والمنوي تنفيذها، فيها فلم تكن هاته المنازل القليلة الارتفاع الترابية اللون على الأغلب لتبعث لنفسي الثقة بقولهم، وقد أثارت المدينة في نفسي ذكر بعض القرى التي زرتها حين سياحاتي في فرنسا، وإن كان بعض الشوارع مما رأيت يدل على ترتيب جديد يدعو إلى الأمل بتنظيم هذه المدينة.
جلست على قهوة في الحي الإفرنجي - وهو الحي المنتظم - من البلد، ولقد كان من أغرب الأشياء على أذني سماع جماعة إلى جانبنا يتكلمون بصوت عال في مسائل تهمهم، وكأنهم جميعا يحسون كأن القهوة دار لهم فهم يعطون لأنفسهم الحرية التي لا يسمح الإنسان لنفسه بها في مكان عمومي، وكلما مر بهم أحد معارفهم مال إليهم وسلم عليهم، وإذا ما أراد أن يبتعد لم يسكت واحد منهم أن يصيح: «اتفضل قهوة والله تيجي» ويعتذر الآخر بصوت أعلى وهو مستمر في طريقه سائر في الشارع.
تناولت طعام الغذاء عند أحد أصدقائي، ولقد أحسست بسرور كبير أن رجعت إلى هذه الحرية البدوية، وجعلت أرقب صديقي صاحب الدار وهو يكسر بأيد قوية أضلاع الديك الرومي الموضوع فوق طبق الأرز، من زمان وأنا لا أرى هذا اللطف المصري حين يقدم لك صديقك كل ما أستطيبه مما أمامه، وكلما رآك انتهيت قدم لك من جديد، وإذا أنت أردت أن تتنازل عما يقدمه تظاهر بالغضب وأراد إرغامك على تناول ما يعطيك غير حاسب حساب ما تخافه أنت من عسر هضم أو تلبك معدة، ركبت القطار بعد الغذاء فسار يقطع بنا الطريق بين رمال المنزلة من جهة وشاطئ القنال من الجهة الأخرى، وإلى مرمى النظر عن الجهتين تمتد الأرض حتى تلتقي بالسماء عند الأفق، وعلى ظهر القنال تسير بعض الكراكات ببطء فنجوز نحن بها مسرعين، وانعطفنا عند الإسماعيلية وانتقلنا من مركبتنا في الزقازيق، هنالك أحسست حقيقة كأني رجعت من سياحتي الطويلة وابتدأت عيني تتعرف المحطات والمزارع والأشياء التي رأت مرارا، فلما نزلنا بأبي الشقوق وسلم علي الخادم وركبت جوادي وسرت على الطريق الذي سرت عليه قبل اليوم ألف مرة أحسست بالرغم من جمود رأس مطيتي وعدم سكونها، بسكينة تراجعني ورضى يحتل قلبي وشعرت بأني صرت حقيقة في بيتي.
ما أعجب الإنسان، أي شيء هذه المحيطات بي والتي بعثت بالسرور إلى نفسي وما مبلغ ما لها إلى جانب ما رأيت في سياحاتي، لكني بالرغم من ذلك أحس لمرآها بانشراح في صدري وخفقان في القلب وكأن هذه الأشياء التي غابت عن عيني سنتين توحي إلي بطفولتي وشبابي.
بعد أيام قضيتها بين أهلي ذهبت إلى القاهرة وأقمت بها يومين، ولقد زرت في خلالهما جماعة أصحابي، كما ذهبت إلى أماكن شتى من مواضع النزهة فيها، كم تغيرت مصر الجديدة وأصبحت مدينة جميلة تستحب سكناها وترتاح لها النفس! ودخلت لونا بارك آملا أن أجد فيه الضجة والسرور الذي كنت أجده في لونا بارك بباريس، ولكني أصبحت بعد أن جزت بابه وكأني بين آثار قديمة لا يقطع صمتها إلا رج الالآت وحركة الأرجوحات فيه، ومع جمال الهواء ونقائه فقد كان الزوار قليلون لدرجة يحس معها بالدهشة والانفراد؛ لذلك فبدل ما كنت أعده في نفسي من الضحك والسرور وامتطاء الأرجوحات والمراكب شعرت بكل ذلك ينهال ويحل محله جد حزين دعاني وصاحبي الذي كان معي لنأخذ بأطراف الحديث في مسائل ذات قيمة، ولما خرجنا سألت عن السبب الذي دعا لهجر هذا المكان مع جمال موقعه ومع الأشياء المفرحة التي يحوي، فعلمت أن الجرائد حملت عليه لأول افتتاحه وعدته مكان سخرية وفساد فجعلت بذلك زيارته سبة وحولت عنه أنظار الناس.
إنني أشد الناس حيرة حين أنظر في أخلاق أمتنا، يخيل لي أن الفرد لا فضيلة له في ذاته وأنه مستعد للوقوع في كل نقيصة - إن صح تسمية أكثر الأشياء نقائص - ما دامت تعرض له، أي أن المصريين جميعا يسيرون على مبدأ «أن من العفة أن لا تجد» وإلا فلم نرى الحكومة والكتاب والآباء والرأي العام كلهم يخيفون الناس - لا من الوقوع في الرذيلة - ولكن من النظر ولو من بعيد لما قد يشك في أنه رذيلة؛ إذ لو أن لهم أقل الثقة بقوة نفس إخوانهم أو أبنائهم لما كانوا بهذا الحرص، ولكنهم في ذلك ينسون أن التجربة خير دروس الحياة وأن الوقوع في الشر مرة يدعو لتوقيه دائما ويخلق للفرد نفسا تفهم وتريد.
ماذا كان في لونا بارك حتى دعا للتخويف منه والحملة عليه، شبان يغازلون فتيات على ما أتصور؟ وأي شيء هذا، ألا يوجد غير اللونا بارك ألف مكان ومكان يغازل فيه الشبان الفتيات؟ ألا ترتكب أعمال مخجلة من هذا النوع بين جدران دور كبيرة؟ ألا يجد الإنسان في الأماكن العمومية بل وفي الشوارع أمثال ما قد كان يمكن وقوعه في لونا بارك؟ لقد قص علي أحد شبابنا حكايات عما يقع في الأماكن الخاصة، ورأيت بعيني مما يحصل في الأماكن العامة ما لا نزاع في أنه يعدل ما يصح وقوعه في مثل اللونا بارك إن لم يكن أفظع منه بكثير، وغاية ما في الأمر أن هذا المكان معرض للأنظار أكثر من غيره، والمصري لا يني عن أن يرتكب أكبر عار في الخفاء إذا أمكن بعد ذلك أن يحفظ أمام الناس حسن مظهره، بل لقد حكى لي صاحبي الذي كان معي في البارك حكاية إن صحت كانت نعم الدرس؛ ذلك أن شابا كان راكبا عربات السكة الجبلية وراء إحدى الفتيات، فانتظر حتى دخلت العربة تحت النفق ثم مد يده فأمسكها من يديها فلما خرج القطار من الظلمة أدارت الفتاة وجهها ولطمت الشاب بيدها على وجهه من غير أن تقول كلمة واحدة، وخرس الشاب وأعتقد أنه قرر في نفسه أن لا يعود إلى مثل ما فعل.
الحكايات التي يقصها إخواننا المصريين عن أنفسهم وعن مواطنيهم تدل على أن الواحد منهم لا يكاد يرى امرأة حتى يساوره نوع من الجنون يضيع معه عقله، وتملكه حواسه فتدفعه إلى الحيوانية المجردة وتقوده - لولا ما ركب في طبعه المصري من الحياء - لأن ينقض على هاته التي أمامه فيأخذها بين يديه ويضمها إلى أحضانه وينهال عليها تقبيلا وعضا، ولو أن المساكين عرفوا النساء وأنهن لا يحوين كل الخزائن التي تدفع شهوة الواحد منهم إياه لتقديرها في مخيلته لهدأت ثائرتهم وكانوا أبعد كثيرا عن الوقوع في هذا الجنون الذي هم معرضون له في لحظة، ولكنهم يعيشون أغلب الأحيان في مجرد الخيال من هذه الجهة، والخيال تلسكوب يكبر كل ما يقع أمامه فيبهر صاحبه ويستدعي كل انتباهه ولا يزال يزداد حتى تصل به الدهشة فتجعله يرتمي على موضع خياله بكل جسمه وقواه، ومهما ظهر له غير مرة كذب ما تخيل فإنه دائم الأمل أن يصدق الحلم مرة ويصل إلى ما يظنه موجودا.
والغريب أن هذه الحالة النفسية التي أهم مظاهرها التهيج والدهشة والجنون تبين عند هؤلاء حتى في أماكن لا موضع لظهورها فيها، فقد ذهبت لثاني ليلة من وجودي بالقاهرة إلى الالدواردو، وتلك هي أول مرة أذكر أني رأيت فيها هذا المكان، وكان من حسن حظي أني لم أقع على أحد من معارفي (القليلين جدا) بل بقيت وحدي أتمتع بالمنظر الذي سيعرضه أمامي الفن المصري.
صفحه نامشخص